اليوم هو 29 مارس وهو نفس ذكرى ميلاد رجل من أعظم وأكبر رجالات الإسلام والعلم والأزهر الشريف في مصر، وهو العالم النحرير والحبر البحر الكبير فضيلة العلامة الشيخ محمد أبو زهرة رحمه الله، الذي ولد في 29 مارس من عام 1898 وكان من أكبر علماء الدين المؤثرين في زمانه، ولم يكن مجرد عالم بسيط، أو متخصص ذو قدرات محدودة، ولكننا في هذه السطور نتناول الحديث عن رجل رهيب، صاحب عقل خطير، وذكاء وقاد، وعبقرية ثاقبة، كان فقيه الإسلام بلا منازع، وشيخه الأكبر بلا منافس، وكان من حماة هذا الدين وحراس عقيدته.
ولكنني فوق ما أسجل من هذا التميز العلمي والتفوق العقلي، أقرر دائما أنني لا أفتخر بالعالم لمجرد العلم، ولكن داعي الفخر في أعماقي والشعور بالغبطة نحو عالم من العلماء، إنما يكون لمواقفه في نصرة الحق، والدفاع عن الإسلام والزود عن حياضه أمام الأفكار المنحرفة والحاقدين على ملته وهديه.
لم يكن الشيخ أبو زهرة رحمه الله مع علمه الكبير من الذين يمكن لهم الصمت أمام تعد سافر على الدين والشريعة، وإنما كان يبادر بالهجوم أمام أي تلوث فكري يمكن أن يتم طرحه باسم الدين.
ومن حوادث الأيام وسوالف الدهر أن سجلت لنا معركة دارت بين الشيخ محمد أبو زهرة ورمز صحفي كبير من رموز العلمانية وهو الكاتب أحمد بهاء الدين، والذي كتب أفكارا لم تعجب الشيخ أبو زهرة، فهاجمه في مجلة منبر الإسلام هجوما عنيفا قال عنه بهاء الدين: " كتب مقالا يسبنى فيه سبًا مقذعًا، ويستعدى على الله والدولة وأصحاب المؤسسة التى أعمل بها، طالبًا أن تطردنى من عملى، وتضعنى الدولة فى سجونها، وأن يسوقنى الله إلى جهنم يوم القيامة"
بدأت المعركة في صيف عام 1961 عندما كتب بهاء في جريدة أخبار اليوم التي يرأس تحريرها حينذاك مقالا تحت عنوان "هذه الدنيا" تحدث فيه عن موضوع الشباب والحب وشكل العلاقات الأسرية ولفت الانتباه إلى أن التطور الاجتماعي الذي يستند إلى تطور مادي قد غير معالم الحب القديم تماما حتى وصل بهاء إلى المقارنة بين الفتاة المتعلمة العاملة وغير المتعلمة وبالتأكيد فضل الأولى فيقول بهاء "لنقارن مثلا بين فتاة لم تتعلم ولم تعمل وأبوها يعولها بصعوبة.. وبين نفس الفتاة لو أنها تعلمت وأصبحت تعمل، إنها في الحالة الثانية تستطيع أن تخرج.. أن تذهب إلى السينما.. أن تبحث عن ثوب تشتريه وعن ذوق يناسبها.. أن تختار شريك حياتها أو توافق على اختياره لها.. أن تكون لها صديقات والفرق هو التغير المادي والاجتماعي الذي حدث لها نتيجة ثقافتها وعلمها".
الكلام لم يعجب الشيخ أبو زهرة فسارع للهجوم على بهاء الدين وأفكاره ووصفه بالمنحرف ورأى أراءه التي تقول بها آثام يحمل وزرها يوم القيامة.
استفز مقال ابو زهرة حفيظة بهاء الدين فسارع إلى الرد على الشيخ مقللا من مكانته ومستهجنا من آرائه ونقده وهو النقد الذي هلل له العلمانيين وكل منحرف على ذات الطريق وزعموا في تقولاتهم أن بهاء قد أطاح بعمة الشيخ والحق أنه ما أبرز في ردوده إلا جهلا وسخفا وتلبيسا.
يقول بهاء: " «إنها المرأة.. دائما المرأة.. فقرة عابرة كتبتها عن الأسرة وعلاقة الرجل بالمرأة ووضع المرأة فى المجتمع الاشتراكى». وبدأ «بهاء» مقاله بمقدمة كتب فيها: «كثيرًا ما يحار المرء كيف يعامل هؤلاء الناس.. وهؤلاء الناس هم بعض رجال الدين الذين يريدون أن يحتكروا تفسير الدين، وبالتالى يحتكرون تفسير الحياة، الذين يحسبون أن الآيات القرآنية عجينة فى أيديهم يكيفونها كيفما تشاء لهم عقولهم المتحجرة فى أغلب الأحيان"
ولا شك أن هذا الكلام فيه من البلاهة ما فيه فبهاء يتصور أن الدين مشاع لكل أحد يمكن أن يلغو فيه بقلمه وفهمه ولا يعلم أن الدين والقرآن والتفسير، لكي تفهم كل ذلك وتؤل ما تريد منه تأويلا صحيحا لابد لك أن تدرس وتتعلم وتتقن أصول العلوم حتى تفهم ما تتحدث فيه، لكن بهاذ شأنه شأن كافة العلمانيين يحاول أن يلغي وجود العلماء ويصور للناس أن الدين مباح لكل إنسان أن يفهمه بالطريقة التي لا يريدها وهو قول منكر وفجور في الفهم والوعي.
ثم يقول بهاء : " أقول إن المرء يحار فى طريقة معاملة هؤلاء الناس، فالواحد منا يحترم فيهم أحيانًا سنهم الكبيرة، ويعذرهم فيما بينه وبين نفسه لأنهم عاشوا حياتهم العقلية أسرى بين جدران كتب معينة محدودة، لم يعرفوا سواها، ولم يدركوا من التجارب الإنسانية غيرها، ولهذا يؤثر الإنسان حتى إذا ناقشهم ألا يخرج معهم عن حدود الأدب، ولكن بعض رجال الدين هؤلاء يبرهنون، من الوهلة الأولى، على أن الدين لم يترك فيهم أول أثرا من آثاره، وهو الأدب والمناقشة المهذبة والمجادلة بالتى هى أحسن، ويحار المرء كيف يعاملهم، هل يكيل لهم بنفس الكيل أم يُقدِّر أن التطور يحطم رؤوسهم فتثور أعصابهم ويطير صوابهم"
ومن هذه الفقر يتضح أمرين أولاهما إن بهاء الدين يحاول أن يبين للناس الفقر الفقهي وعدم البصر بالواقع والدنيا وتغيراتها في فهم أبو زهرة وتصوراته، وكتب أنه وأمثاله كانوا كذلك لأنهم حبيسو الجدران بين الأسفار والكتب والمراجع، ثم بين أن هذه الكتب محدودة أي أنها لا تفي بعلم ولا تهدي لبيان، محدودة أي قاصرة.
وهذا إن دل فإنما يدل على افتراء رخيص، فهذا الرجل الذي أنتج أكثر من 80 كتابا خدم بها المكتبة العربية والإسلامية، لم يكن نبت كتب محدودة وإنما كان رجلا واسع الاطلاع مهولا في العلم، وكل من قرأ لأبي زهرة يعرف ذلك ويراه بين ثنايا كتبه.
الامر الثاني يبدو أن بهاء متضايق جدا من هجوم أبو زهرة عليه مما دعاه أن يحدث القراء أنه يريد أن يتنازل عن الأدب في حربه مع الشيخ ، وما ذلك إلا لأن ألفاظ الشيخ وسطورة قد ألهبت قريحته وأزعجت جنانه، ولنترك الأن بهاء الدين وانزعاجه في هذه النقطة ونوجه الحديث لعلماء الدين ودعاته كيف يكونون ذو بأس على أعداء الدين والمنحرفين والمفرطين، فلا تأخذهم بهم هواده وأن يهبوا غيرة على دينهم ودفاعا عنه.. فهل ترى اليوم ممن يصفونهم بالعلم ويصفقون لهم في المنتديات ، هل رأيت يوما لأحدهم غضبة لله ورسوله، هل رأيته يقيم الدنيا ولا يقعدها إذا انتهكت حدود الله؟ هل رأيته يتناول قضايا المسلمين أو يهتم بأمرهم؟
ثم يقول بهاء في تسفل وقح: " «ألا تلاحظون معى أن هؤلاء المشايخ لا يكاد يعنيهم شيئا فى الوجود إلا المرأة؟.. ألا تلاحظون أنهم أكثر الناس تفكيرًا فى المرأة؟! أليس هذا غريبًا حقًا؟.. ألا يحتاج هذا إلى محلل نفسى أكثر مما يحتاج إلى جدل عقلى؟! الأغرب من ذلك أن ما يعنى هؤلاء المشايخ من المرأة ليس «الإنسانية» ولكن «العورة»، المرأة فى عقلهم الباطن مخلوقة حقيرة مستعدة أن تبيع عرضها لأول عابر سبيل، إذا غفل الرجل لحظة واحدة عن حراستها، المرأة فى مفهومهم لا تصلح إلا لشىء واحد هو أن تسلم نفسها للرجال، ولهذا يجب أن تقام حولها الأسوار وتنفتح حولها العيون الحمراء.. حرية المرأة ليس لها معنى إلا الفساد.. مسؤولية المرأة عن نفسها لا نتيجة لها إلا الانحلال.. خروج المرأة من بيتها لا يؤدى إلا إلى أن ينقض عليها الرجال.. الجنس.. والجنس وحده يدوى فى عقولهم وباستمرار"
وهنا لا أعلم هل بهاء الدين يضحك على نفسه وهل قرأ في مقررات الغزو الفكري وبروتكولات أعداء الإسلام وكيف اعتمدوا على المرأة في تخريب المجتمع الإسلامي وكيف جعوا منها أفتك أسلحتهم في هدم نهضتها وبعثها من ركودها وتخلفها.
وإذا لم يقم علماء الدين بدورهم في الحفاظ على وضعية المرأة في المجتمع ويهبون في وجه كل من يحاول أن يسرب إليها أفكارا تهدم من عفتها ومكانتها ويجترها أن تفرط في دورها ووظيفتها وجهدها الكبير في يقظة الأمة، فكيف يكونون علماء يحترمون علمهم ويقدرون المسؤولية التي جعلها الله لهم؟
بهاء الدين يحاول التعمية والتلبيس والافتراء من حديث الشيخ أبو زهرة عن المرأة ليستنتج أفكارا أخرى يصور فيها للناس أن الشيوخ لديهم عقدة في أمر المرأة ويحتاجون إلى معالج نفسي، ولم يقل لنا بها: لماذا لا يحلل لنا بعبقريته الزاهية، لماذا يهتم العلمانيون والملحدون بالمرأة ويقيسون تقدم المجتمع من ركوده أو نهضته باسم المرأة؟ من من الطرفين لديه عقدة نفسية ويحتاج إلى معالج نفسي؟
أمر آخر أحب تسجيله وهو أنك إذا بحثت عن هذه المعركة في الانترنت فإنك لا تجد من يتحدث عنها إلا المنتصرين لبهاء من الكتاب العلمانيين والناصريين، ويحاولون التصوير بأن بهاء قد أطاح بعمة الشيخ كما ذكرت وأنه قد أهانه بقلمه، بحيث لا تذكر هذه المعركة أمام أحد إلا ويتصور أن المهزوم فيها هو الشيخ أبو زهرة، وحق لهم فعل ذلك، فهم أكثر يقظة وتركيزا وعملا واجتهادا، وقد كنا نتمنى ممن يهتمون بالتراث الديني من يحيي لنا مقالة الشيخ أبو زهرة في منبر الإسلام ويعيد نشرها حتى نرى من المنتصر، ونتعلم من الشيخ أبو زهرة كيف نحفظ قيمنا وننتصر لديننا.
كما أحب التنوية بما آلت إليه الأمور فقد دارت المعركة والرد بين الاهرام ومجلة منبر الإسلام، فانظر قديما كيف كانت مجلة الإسلام درعا حاميا يصد عن دين الله، ثم انظر لها اليوم وقد صارت هباء منثورا، لا قيمة لها ومكانة!!