قال لي القائل يوما: لقمة في بطن جائع خير من بناء ألف جامع
قلت له: صدق القائل وإنه لصاحب عقل حصيف أدرك حقيقة الإسلام ومراده، ذلك الدين الذي جاء من أجل الإنسان وكان رسوله رحمة إلى العالمين.
لكن هناك أناسا على الجانب الآخر لا يستوعبون ويصرون على الجهالة أن تعمي عقولهم وبصائرهم.. فليحترق الإنسان أمامهم جوعا وفقرا لا يهم المهم أن ينفقوا الملايين والألوف في الحج والعمرة للمرة الثانية أو بناء مسجد لا يبعد عن المسجد المجاور إلا 300 متر.
انظر هنا في قرية ضل أهلها سواء السبيل، وفقدوا عقولهم التي وهبهم الله إياها، تفترسهم الأمراض، وينكل بهم الفقر والعوز، وتقتلهم الحاجة وضيق اليد، ويحقد بعضهم على بعض إن تميز أحدهم عن الآخرين بمال أو عقار أو بنين، كل هذا الهلاك، ويذهبون ليضعوا الملايين المملينة في بناء مسجد مع امتلاء قريتهم بالمساجد، وشبابهم ورجالهم ومرضاهم وضعفاؤهم في حاجة لمال ينهض بهم وينقذهم من مآسيهم عبر مشروع أو مصنع أو مشفى أو مدرسة ترتقي بتعليم أبنائهم..
عجباً لهؤلاء.. كيف يفكرون؟ وكيف يتصرفون؟!
يقولون: المال نتقرب به إلى الله، نبذله ولا نضن به في سبيل الله.! وفي وقتٍ تصيب المسلمين فيه نكبات شتى، ما بين احتلال واستعمار، وسفك دماء وهتك أعراض، وما بين استبداد وعمالة وفقر وفساد وعلل وأمراض، ترى السفاهة في الإنفاق، والجهالة في المقصد، والعقل الذي تخدعه الأهواء.
وهي نفس الصورة التي ذكرها أحد شيوخ الإسلام المعتبرين حين قال: "رأيت من المسلمين الطيبين في أنفسهم من يتبرع لبناء مسجد في بلد حافل بالمساجد، قد يتكلف نصف مليون، أو مليوناً أو أكثر من الجنيهات أو الدولارات، فإذا طالبته ببذل مثل هذا المبلغ أو نصفه أو نصف نصفه في نشر الدعوة إلى الإسلام أو مقاومة الكفر والإلحاد، أو تأييد العمل الإسلامي لإقامة الشرع وتمكين الدين، أو نحو ذلك من الأهداف الكبيرة، التي قد تجد الرجال ولا تجد المال، فهيهات هيهات أن تجد أذناً مصغية، أو إجابة ملبية، لأنهم يؤمنون ببناء الأحجار، ولا يؤمنون بناء الرجال!
وفي موسم الحج من كل عام أرى أعداداً غفيرة من المسلمين الموسرين يحرصون على شهود الموسم متطوعين، وكثيراً ما يضيفون إليه العمرة في رمضان ينفقون في ذلك عن سخاء، وقد يصطحبون معهم أناسا من الفقراء على نفقتهم، وما كلف الله بالحج ولا العمرة هؤلاء.
فإذا طالبتهم ببذل هذه النفقات السنوية ذاتها لمحاربة اليهو..د في فلسطين، أو لمقاومة الغزو التنصيري في إندونيسيا، أو بنجلاديش، أو غيرها من بلاد آسيا وإفريقيا، أو إنشاء مركز للدعوة، أو تجهيز دعاة متخصصين متفرغين، وتأليف أو ترجمة ونشر كتب إسلامية نافعة، لووا رؤوسهم ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون.
هذا مع أن حجهم واعتمارهم من باب التطوع والتنفل، أما جهاد الكفر والإلحاد والعلمانية والتحلل، وما يسندها من قوى داخلية وخارجية، فهو الآن فريضة العصر، وواجب اليوم.
فليت الذين يتطوعون بالحج –وهم الأكثرية!- ومثلهم الذين يتطوعون بالعمرة طوال العام، وخصوصاً في شهر رمضان، يتنازلون عن حجهم وعمرتهم، ويبذلون نفقاتهما في سبيل الله، أي في إنقاذ إخوانهم المسلمين والمسلمات، الذين يتعرضون للهلاك المادي والمعنوي، وللعدوان الغاشم، الذي يستبيح كل حرماتهم، ولا يريد أن يُبقى لهم من باقية، والعالم المتقدم يرى ويسمع، ولا يحرك ساكناً لأن الغلبة لحق القوة، وليس لقوة الحق!!"
وقد رأى نفس الشيخ بعض المتدينين الطيبين من أقاربه وأصدقائه يوما، ممن كانوا يحرصون غاية الحرص على أداء شعيرة الحج كل عام، ومنهم من يحج سنوياً منذ أربعين سنة، وقد بلغ عددهم 100 شخص، وكان الشيخ حاضرا لتوه من إندونسيا وشاهد ما يصنعه التنصير هناك من أعمال هائلة، وحاجة المسلمين الماسة إلى مؤسسات مقابلة، تعليمية وطبية واجتماعية، فذكر هؤلاء المتدينين وقال لهم ما رأيكم لو نويتم ترك الحج هذا العام ، وتبرعتم بنفقاته لمقاومة التنصير.؟!أنتم تبلغون 100 شخص.. كل شخص منكم يتكلف 10000 جنيه = (1000000) لمليون جنه، ويمكن أن يكون هذا المبلغ نواة قوية لمشروع كبير، ولو أعلنا عنه لربما قلدنا فيه آخرون، فكان لنا أجر من اتبعنا.
فإذا بهم يقولون: إننا كلما جاء موسم الحج أحسسنا برغبة لا نستطيع أن نقاومها للحج والمناسك، ونحس بأرواحنا تحلق هناك، ونشعر بسعادة غامرة كلما شهدنا الموسم مع الشاهدين.
فرد الشيخ عليهم بقوله: ولو صح الفهم وصدق الإيمان، لكان على المسلم أن يشعر بسعادة أكبر، وروحانية أقوى، كلما استطاع أن يقيم بنفقات الحج مشروعاً إسلامياً، يكفل الأيتام، أو يطعم الجائعين، أو يؤوى المشردين، أو يعالج المرضى، أو يعلم الجاهلين، أو يشغل العاطلين.
ورحم الله خامس الخلفاء الراشدين حينما كتب إليه حجابه ليأمر بكسوة الكعبة المعتادة كل عام، والتي تكلف كثيراً من المال، فما كان منه إلا أن منع ذلك وكتب: إني رأيت أن أجعل ذلك في أكباد جائعة، فإنه أولى بذلك من البيت!
أرأيت: إنها الكعبة بيت الله، يمنع عنها الكسوة من أجل الأكباد الجائعة، فما أفقهه وأرحمه.