انتقدت كثيرا طه حسين، ولي موقف عنيف مع أفكاره وطرحه ورؤاه.
كتبت كثيرا في نقده حتى ظنني الناس أنني عدو له أو مسلط عليه، ولا يعلمون أو يتخيلون أنني لا أطلب إلا الحق.
بل عدني بعض السطحيين الجاهلين أنني من هذه الفئة التي تهدم الرموز ولا شأن ولا شغل لها في الحياة إلا البحث عن قبائح الناس وهناتهم وإبرازها والترويج لها، وليس على هذا تربيت أو شببت، فما ترعرعت عليه يأبى علي إلا أن أكون جنديا للحق وللحق وحده.
ورغم نكراني على العميد كثيرا من الأفكار، إلا أنني دوما أعترف وأقرر وأكتب بأنني لم أقرأ ولم أعرف أديبا بلغ الإنسانية العالية كما بلغ طه حسين.
كان إنسانا بمعنى الكلمة، خيرا بمعنى الكلمة، لا يتوانى أبدا عن نجدة ضعيف أو تقديم العون لمحتاج، ولعلها صفة ربما نراها في غيره، فلِم العجب إذن ولِم الإشادة؟
والجواب: إن إحسان طه حسين شمل محبيه ومنتقديه، أو كان يمتد لخصومه ومعانديه الذين صبوا عليه من لهيب عداوتهم ما لا تتحمله الجبال وتلك إن دلت فتدل على نفسية رجل عظيم ونفس سامية.
ومع أني كتبت فصولا كثيرة في مدحة والثناء عليه في مواقفه الإنسانية، إلا أن الناس لا يتذكرون ذلك، ولا يرون في إلا أنني عدو له، كاره لاسمه وأثره، والأمر لا يصل أبدا إلى حد العداء والكره، وإنما هو فكر ورأي أبدي نظري ورأيي فيه.
حتى أنني ألفت مؤخرًا كتابًا يحمل عنوان تعلمت من هؤلاء، وذكرت في مقدمته طه حسين وما تعلمت منه من مواقفه الإنسانية الكريمة.
ومن العجيب مع هذا الرجل أنني كلما توغلت في حياته وقرأت عنه تثبت لي المشاهد والمواقف الإنسانية الجديدة التي أكتشفها فيه، خاصة مع خصومه والذين لم تكن خصومته معهم أي خصومة، وإنما كانت خصومة عنيفة شديدة مؤلمة له وجارحة لمشاعره.
ذكرت فيما سبق كيف كان موقفه حينما علم بدخول بنت الرافعي الجامعة، فطالب مجلس الجامعة أن يقرر لها المجانية كرامة لأبيها، وهدد أن الجامعة إذا لم توافق فسوف يكون الانفاق عليها من ماله الخاص، والمذهل في المر أن هذه الفتاة بنت من؟ إنها بنت الرافعي الذي لا يوجد رجل على ظهر هذه الأرض أزعجه وأهانه ووصفة بأشد الصفات كما وصفه الرافعي، ومع هذا يعفو ويصفح وينسى ويدافع عن ابنته الطالبة.
وانظر مؤخرًا حينما كتبت عن المازني وكيف سولت له نفسه وهو يرد على طه حسين في بعض نقداته الأدبية أن يلجأ ويعرض بعلة الرجل، ويعيره بعماه، نعم لقد جرته المعركة مع الدكتور (طه حسين) أن يعيره بعلته، ويذكر له بالفم الصريح والتعبير القبيح، أنه أعمى، بل لم يذكرها مرة عابرة، وإنما كررها وأمعن فيها إلى حد مستغرب يثير النكران.
ففي كتابه (قبض الريح) ينقد أسلوب الدكتور طه نقدًا أدبيًا، ثم يفاجئ الجمهور بأن أظهر عيوب الدكتور طه في أسلوبه الأدبي، هو التكرار والحشو، وما هو منه بسبيل، ثم يقول: وعلة ذلك راجعة إلى أن الدكتور طه يُملي ولا يراجع، وإذا به ينساق في قبيح كلامه، حتى يتطرق إلى علة الرجل المرضية الزمنية، وأن عماه قد آثر العمى أيضا على أسلوبه، وأخذ يكرر ذلك تصريحًا وتلميحًا، بل أوغل في ذلك حينما عقد مقارنة بين عمى بشار بن برد وأبي العلاء وعمى طه حسين، وهو أمر ما كان أرفعه عن ذكره. والحق أنها كانت سقطة عظيمة سقط فيها المازني، الذي مات وأدرك الناس أنه لم يترك لأسرته وعياله شيئا يذكر، فلا معاش ولا عقار ولا مدخرات، وكم كانت دهشتي أكبر حينما علمت أن طه حسين هو الذي قاد في الصحف حملة قلمية عنيفة في الصحف يطالب بها الدولة إلى رعاية أسرة الأديب الراحل، بل قرأت عما قاله وقد قال: إنه سيقض مضجع الوزراء حتى يستجيبوا للدعوة إلى هذه الرعاية، ولم يقف طه حيال هذا العزم الذاتي فقط، بل دعا حملة ا
لأقلام أن يفعلوا مثله، وجد طه في الأمر عمليا حتى نجح أن يجعل مجلس الوزراء يقرر تعليم أبناء المازني مجانا في كل مراحل التعليم، كما واصل سعيه حتى قرر مجلس الوزراء مرة أخرى معاشًا شهريًا لأسرة المازني وكان أول قرار في مثل هذه الحالة.
لله ما أروع طه وما أجل إنسانيته، وإذا كان الناس يلومونه على بعض أفكاره التي يرونها مجافية لثوابت الدين، أليس من حقه علينا هنا أن نتساءل أن سلوكه هذا قد ضرب فيه أروع مثال في التزام تعاليم الدين التي تدعو إلى التراحم والبر والإحسان والعفو والصفح والوقوف بجوار الضعيف والفقير والمحتاج.
وهكذا كان طه.