يستنكر الناس حالة أخوين شقيقين تربيا سويًا في بيئة واحدة وعلى يد أب واحد وأم واحدة، وأكلا من إناء واحد وشربا من جرة واحدة، واستظلا تحت سقف بيت واحد، ثم يخرجان إلى الدنيا يعادي بعضهم بعضًا ويتمنى أحدهم زوال الآخر.
هذه حالة بشرية تثير العجب لأنها تخرق نواميس الطبيعة، ولا تجدها حتى في الحيوان ومخلوقات الله التي تفتقد العقل.
ويتأمل المتدين الواعي البصير المتفتح نفس المسار الذي يثير عجبه حينما يرى من يقف معه في خندق واحد، يحمل نفس غايته، ويرنو إلى ذات هدفه، ويشعر بذات أشواقه، ثم بعد هذا يكون هو العدو الذي لا هدف لنا ولا غاية إلا هدمه وتشويهه، وتدميره والقضاء عليه.!
حالة عجيبة إن دلت ابتداء فتدل على سوء فهم وانحدار عقل، وفساد إدراك وانعدام وعي، وجهل بأولويات التحدي والمصير.
ولعل هذا مما نراه واضحًا في العراك بين الجماعات والتيارات أو حتى الشخصيات الدينية، حينما ينحرف أحدهم عن مناجزة عدوه، إلى مناجزة صاحبه ومن يقف معه في صف الدفاع عن الفكر والهوية الدينية.
قديما هاجم العلامة المجدد رشيد رضا آية الله في الثقافة والمعرفة الأستاذ محمد فريد وجدي وهو الرجل الذي لا يجود الزمان كثيرا بمثله.. كان الهجوم لأن وجدي هم بتأسيس مجلة دينية فدبت الغيرة في نفس رشيد الذي لم يتمالك نفسه لأنه ظن أن مجلة جديدة تنافس المنار، فصب جام غضبه على وجدي مسفها ومقرعا، لكن وجدي كان أعقل وأبصر وأهدأ كثيرا أمام ما رمي به من تسفيه، فأبى أن يرد على رشيد وصرح بأنهما يعملان سويا لغاية واحدة.ولعله كان درسا قاسيا على رشيد خاصة وهو الإمام الكبير، لكنه قبل الإمامة إنسان قد تكون له بعض الهنات.
في عام 2014م كتب الدكتور (ناجح إبراهيم) في اليوم السابع مقالا مهما يستنكر فيه أو يتعجب من إهمال الحركة الإسلامية لكتب العقاد ولشخصية العقاد، وتراث العقاد، مع أنه يشترك معهم في الانتصار للهوية الإسلامية!!
يقول د- ناجح: "إننى الآن أقر وأعترف أن الحركة الإسلامية المصرية خاصة والعربية عامة قد قصرت في حق العقاد وأهملته وبخسته حقه.. ولم تحدث أبناءها يوماً عنه ولا عن دفاعه العظيم عن الإسلام في أوقات عصيبة في الوقت الذي تثنى الحركة فيه صباح مساء وبداع وبغير داع على بعض قادتها الحركيين الذين لم يقدموا للإسلام أو الفكر أو الفقه الإسلامي أو للأجيال القادمة جديدًاً في علوم الإسلام.
لقد تأملت حالة معظم الحركات الإسلامية فلم أجد حركة واحدة في أي قطر من أقطار الإسلام قررت كتاباً واحداً للعقاد على أبنائها رغم عظمة هذه الكتب وإشادة الجميع بها.. ولم تقرر حتى عبقرية من عبقرياته مثل عبقرية الصديق أو خالد أو محمد صلى الله عليه وسلم أو عبقرية المسيح أو عثمان ذو النورين» أو عبقرية الإمام على بن أبي طالب أو عبقرية معاوية .. في الوقت الذي قررت على أبنائها كتباً لبعض قادتها الحركيين أو دعاتها المبتدئين لا يتساوى أحدهم مع بعض تلاميذ العقاد مثل د/ الطناحى أو غيره .. وهذه أزمة من أزمات الحركة الإسلامية الفكرية المستعصية"
وأنا هنا أخالف الدكتور ناجح، وأرى أن أكثر اللوم يقع على الأستاذ العقاد وحده، وبعض اللوم يقع على غيره، في هذه الحالة من النفور والتضاد، وكان الأولى بالدكتور ناجح في مقاله هذا أن يتحدث عن السبب في هذه النفرة من الجماعات الإسلامية تجاه الأستاذ العقاد وتراثه، والسبب معلوم حينما نرى العقاد وفي بواكير نشأة التيار الإسلامي على يد الإخوان المسلمين، سارع بالهجوم على الجماعة من منطلق سياسي حينما رأى أنها تسحب البساط الجماهيري من أسفل حزب الوفد، الذي يعد العقاد لسان حاله والجندي الناطق بلسانه، فإذا العقاد يدخل معتركًا سياسيًا بنكهة الدين، فسارع إلى تخوين الجماعة بمقالات عنيفة، أهمها (الخوان المسلمون) كما نال زعيمها بهجوم أعنف حينما وصفه بأنه من جذور يهودية، وغاب عنه أن والده من أكبر علماء الحديث والسنة في زمانه، وأنا هنا لا أدافع عن حسن البنا بقدر ما أريد إثبات أن منحى العقاد في هذه المقالات النارية كان منحى سياسيًا وكما قلت بنكهة الدين.
لكن وبعد هذا الهجوم الذي كان العقاد من ابتدأه وأشعل أوار ناره، هل ينتظر الدكتور ناجح إبراهيم بعد هذا، أن يكون للعقاد مكانة في قلوب أفراد هذه الجماعة؟ أعتقد أن الجواب لا ولن يكون.
أو بمعنى أفصح في الغالب لن يكون مع أننا رأينا منهم من يحترم العقاد ويثني عليه وعلى جهوده في خدمة الإسلام كالشيخ الغزالي والدكتور القرضاوي.
أما غالبهم ومن فقدو ثقافة الانفتاح، فهو عندهم رمز الإفك والزيف والزور والتجني، خاصة حينما تقرأ في موسوعتهم (أحداث صنعت التاريخ) بأن الأستاذ العقاد التقى بسعيد رمضان ومدح حسن البنا وزعم أنه يعده من أئمة النهضة وركائزها الكبيرة.
هكذا يتحمل الأستاذ العقاد وزر هذه الخصومة في جانب من الجوانب.
أما التيار الآخر غير جماعة الإخوان المسلمين وهو التيار السلفي، ولعلي أخص هذين التيارين لأنهما الأكبر في مصر، ومنهما تتشكل صور الحركة الإسلامية التي نلحظ أفرادها في مصر، فأقول بأن قطاعا كبيرا من السلفيين أكثر الناس تسفيها للأستاذ العقاد، وذلك لأمور فهو غير ملتح وغير مقصر للثياب، ولس من أهل الحدث ولا من فقهاء الرواية والدراية، ومن كان بهذه الصورة فهو عندهم جاهل وليس بعالم، بل سارع شيخهم أبو إسحاق الحويني وفي إحدى دروسه ليعلن بقوله: " إن العقاد كان تحت خط الفقر في العلم"، وهي قولة عجيبة، فالعقاد الذي كتب في كل فن ولون فقير في العلم، بل تحت خط الفقر؟! العقاد الذي "اتسع انتاجه فكتب عن الثقافة والفلسفة في شتى عصورها، وعن نظريات الحكم والاقتصاد وعلم النفس، والتراجم والتاريخ، وكتب عن التفكير الديني وأصول العبادات، بل كتب عن العقائد والثقافة ما يربو على المائة مؤلف، ذلكم (العقاد) الذى ذاع صيته واشتهرت مقالاته ومؤلفاته، وتخطت آراؤه اليابس والماء، وجنى ثمرة نبوغه وهو على قيد الحياة حتى خلع عليه الناس من الألقاب والصفات ما هو أهل له فوصفوه بالعملاق، والكاتب الموسوعي، والكاتب الجماهيري والسياسي المحنك، ومحامى العباقرة وغيرها من الصفات والألقاب التي صارت اسما من أسمائه، ولقبا من ألقابه وما ذلك إلا ثمرة جهاده، وموهبته التي لا تجاري"
راجع من مجلة التبيان
وللحويني عذره في هذا لأنه لا يعلم أن العلم في الدنيا لا يكون إلا علم الحديث فقط، وما دونه ليس بعلم ولا بفن يستحق أن ينصت له.
والحويني الذي تجاسر ونطق بمثل هذه اللفظة التي تكاد الحقيقة تهتز لها هزًا، إذا ما حولنا أن نقيسه بالعقاد، ونضعه معه في ميزان واحد، فإنه سيرى نفسه قزما ضئيلا أمام هذا العملاق.
ففضيلته كما ذكر الأستاذ (معتز شكري) في كتابه العقاد يحكي أسرار حياته: " ليس له باع في الأدب والشعر والنقد والفلسفة والتاريخ والاجتماع والسياسة والاقتصاد والجغرافيا والصحافة والترجمة وعلوم العصر الطبيعية والكونية ، ولا أحد في المائة مما كان عليه الأستاذ العقاد ولا يوجد لديه معشار القدرات العقلية ومهارات محاججته الفكرية ومنطقه الجبار واتساع اطلاعه المذهل مما كانت عطاءات الأقدار تؤيده بها جميعا في منازلاته الفكرية ومعاركه التي انتصر فيها، مع أن ما كان عنده وقدمه لمجتمعه ولا يزال الناس جيلا بعد جيل يقتاتون عليه من مشارق الأرض ومغاربها في عالم الإسلام وما وراءه أيضا، هو شيء تطلبه حياة الناس مثلما تطلب ما يقدمه الحويني أو فوقه بكثير، ولله در شكري حينما قال ولعل الحويني في فنه له أشباه ونظائر قد تفوقه أو تماثله، أما العقاد فكان نسيج وحده، ومن آيات الله في قدرة العقل البشري على الإحاطة وهضم العلوم والمعارف ونفع الآخرين بها، وآية ذلك أننا وبعد أكثر من (50) عقد من الزمان، لم نر كاتبا يضارعه أو حتى يقترب منه في تلك الملكات والقدرات"
وربما تسمع للحويني وغيره وهو ينتقد الأستاذ العقاد بأنه استشهد في كتبه بمرويات ضعيفة غير صحيحة، لتكون النقطة التي ينطلقون منها للحديث عن جهل العقاد، وأنه رجل فقير في العلم أو تحت خط الفقر في العلم، وقد تجاهلوا الفارق الزمني بين ما كان متاحا من أدوات هذا العلم أيام العقاد منذ أكثر من سبعين عاما، وبين الصحوة الحديثية التي وصلت اليوم لأرقى مستوياتها العلمية في نقد المرويات، واعتمدت على مناهج جديدة ومخطوطات وتخصصات لم تكن موجودة من قبل، ساهمت في القدرة على نقد النصوص.
ثم أحب أن أقول: هل كان من أعلام الحديث في هذا الزمان من ثبت أنه رد مرويات الأستاذ العقاد واستنكرها في الوقت الذي كان هو رحمه الله يرد مرويات الآخرين ويكشف ضعفها وفسادها وعدم صلاحيتها كما فعل مع الشيخ أمين الخولي وغيره؟ لم يثبت أن أحدا من المحدثين والعلماء استنكر على الأستاذ مروياته وذكر بضعفها وعدم صحتها.
فإذا تم توجيه اللوم للأستاذ فلابد أن يلام على هذا غره من المحدثين في زمانه وأدرى الناس بعلم المصطلح.
فهل هذه الحالة العلمية يلام عليها الأستاذ العقاد وتكون الهفوة التي يؤتى من قبلها والسبيل الذي من أجله يريدون أن يهيلوا التراب عليه وعلى جهوده؟!
أعتقد أن هذا لون من الهذيان العقلي.. بل المدهش أنهم لا يرون في آثار العقاد أي نفع أو خير أو محمدة يحمد عليها أو حسنة يثاب بفعلها في نصرة الإسلام والزود عنه، فإذا بهم يشنون عليه الغارة، وكأنه عدو من أعداء الإسلام، أو مستشرق خبيث يكيد لتراث المسلمين.؟!
فهل مع هذه الحالة يريد الدكتور ناجح إبراهيم أن تتقبل التيارات السلفية تراث الأستاذ العقاد، وتنشره وتدرسه وهي تنظر إليه بهذا المنظار الكئيب الأسود، ويجعلون منه رجلا تحت خط الفقر في العلم.؟!