لو أن إنسانا أحب امرأة وظل طوال الليل والنهار وفي كل لحظة وكل ثانية يقول لها: أحبك أحبك، لملَّت وضجرت من هذا المونولوج المتكرر، ذلك لأن النفس تنفر من التكرار حتى ولو كان جميلا.
أذكر أنني كنت في السعودية، وكنت أعمل بالندوة العالمية للشباب الإسلامي، وجاء وقت عيد الأضحى وأشرفنا على الذبائح ووزعناها على كل من نعرف وبقي لدينا الكثير، كنت كل يوم آكل من هذه اللحوم التي وزعت علينا حتى كرهتها، وكرهت رائحتها، ووصلت لدرجة التموع النفسي، وصرت إلى اليوم أعافها في كثير من الأحيان حينما أتذكر هذه -الميغة- الكبيرة.
لماذا أسوق هذا المشهد؟
سأخبرك ولكن قبل هذا تأكد جيدًا أنني أحب وطني مصر، حبًا عظيمًا، وربما أحبها أكثر منك وأكبر منك، لأنها الوطن الذي يكون حبه فطرة وطبعا يجبل عليه الإنسان، وعلى هذا فلست مطالب في كل لحظة وحركة وسكنة أن أعلن لك ولغيرك أنني أحب مصر، لأنه حب لا يحتاج إلى إعلان أو إظهار، فهو طبيعي وفطري، لكن بعض الناس يحلو لهم هذا المسلك الغريب، فتراه صبحا ومساء، ليلا ونهارا، يقظة ونوما، يسمعنا موشحات في حب الوطن، وتغريدات في عشق مصر، يغني لهواها ونسيمها وشمسها وقمرها وترابها ونيلها وصحرائها وطينها، بشكل زائد عن الحد، وغريب عن الطبيعة البشرية، وهو المعنى الذي أردته في العنوان بأنها -أفورة- وطنية، فإذا حدثته في حديث يقول لك: مصر، وإذا طلبته في مشورة يذكر مصر، وإذا سألته سؤالا يكون الجواب مصر، وإذا أردته في عمل يصيح في وجهك: مصر مصر، وإذا نظرت صفحته الزرقاء وجدت كل شيء فيها عن مصر، الأغاني عن مصر والموشحات عن مصر، حتى علم مصر يصبغ به كل مكان، ولو طال أن يفصل منه ثوبا يرتديه لفعل.
حتى استقر في روعي بيقين أن أمثال هذه النوعية من الناس -المأفورة- لا يحبون أصلا مصر، ولأن انتماءهم لها ضعيف مهترئ، فهم يحبون دوما أن يذكروا أنفسهم، بهذا الحب الذي لا يجدونه في صدورهم كل دقيقة، فهم في بعض الأوقات يرون أن مصالحهم ارتبطت بشعار حب مصر، ومن ثم يرددونه بكثرة، وإذا أصبحوا في حال حتى ولو كان ضد مصر وضد مصالح مصر ومستقبل مصر، رأيتهم يخدعون أنفسهم بهذه الهيستريا من منولوج حب مصر، يريدون أن يؤكدوا للدنيا أنهم على الطريق الصواب الذي ينهض بمصر، وأن خطأهم حينما يتغنوا بمصر، يتخيلون أنهم بهذا يقنعون الدنيا كلها أنهم عشاق الوطن والذائبون في ترابه.
ولكن الحقيقة أنهم يحبون أنفسهم وأهوائهم ومصالحهم فقط، وليس لمصر دخل في الموضوع.
فأحدهم مثلا حينما اراد ان يدافع عن السلفية ضد خصومها وناقديها، إذا به يعلق قائلا: السلفية صمام أمان لمصر.. نحن نناقش أفكارا وننقد تيارا فلماذا تزج بمصر في القضية، وهكذا كل من سولت له نفسه أن يزكي طريقه، فما عليه إلا أن يلصقه بمصر.
(وكل يدعي ولا بليلى)
تماما ككثير من العلمانيين والملحدين، تجدهم حينما ينشرون إلحادهم وجحودهم لثوابت دينهم، يذكرون مصر والوطنية، وأنهم بهذا الفكر حماة البلد وحراسها الذين يخافون عليها ويخدمونها بأفهامهم وأعمالهم، وهي خديعة ماكرة، لأنهم لو أحبوا وطنهم، لحافظوا على عقيدته ودين شعبه، ولم يبثوا فيه الشبهات كي يدمروا دينه وثوابته.
تجد العلماني حينما يتكلم في أفكاره، لا يمكن أبدا أن يتكلم ويعرض شبهاته، إلا ويمزجها بحب الوطن والخوف على الوطن، وأنهم أكثر الناس حبا للوطن، ولعمري لهم أشر الناس على الوطن الخراب الذي يهدد أمنه واستقراره.
وهكذا صار الزج باسم مصر ألعوبة ومضغة على لسان كل أفاك أثيم.
ولكي تفهم حديثي أكثر أذكر لك حادثة وقعت عام ١٩٢٤م حينما كتب الصحفي الكبير محمد التابعي نقدا فنيا لمسرحية حور محب، فهل تتخيل أن ما أصابني اليوم من هذا النفور المتكرر، هو نفس ما لمسه الأستاذ التابعي حينما استمع هذه المسرحية؟!
يقول الأستاذ التابعي في نقده الذي كتبه عن المسرحية: "وقد شاء المؤلف ألا يعارض تيار النهر، فحشر في كل مناسبة وغير مناسبة تلك الجمل الجوفاء التي يبتاع بها تصفيق الجمهور، ولكنه بثمن بخس وضع في فم كل ممثل ممثلة شيئًا عن مصر وحب مصر ومجد مصر وقوة مصر، ولا تمر عليك عشر دقائق إلا وتسمع مونولوجًا أو محاضرة عن مصر، حتى أعداء مصر قام ملكهم، وهو في ساحة القتال، يتغنى بمجد مصر وقوة مصر". ثم قال التابعي: "وبعد يا سيدي المؤلف، ألا ترى أنك أسرفت كثيرًا في حب مصر؟ جميل أن تتغنى بحب مصر، وجميل منك أن تفرح قلوبنا بمجد مصر وعظمة مصر، ولكن الشيء إذا زاد عن حده مُجِّه الذوق السليم وخسر كثيرًا من قيمته".
إن حب الوطن لكي تتغنى به يحتاج إلى ثقافة ومعرفة وكيفية، فلا يكفي فقط أن تكون مصر في القلب، وإنما لابد من العمل والجهد والسلوك والحكمة والفهم والاختيار الرشيد الذي يجعلك فعلا محبا لوطنك بإخلاص وعقل، لأن الحب بالقلب وحده لا يكفي، وإلا كنت ك"الدبة التي قتلت صاحبها"
وهو المثل الذي عرف في حكاية قديمة تُروى عن رجل ربّى دبة وأصبحت صديقته المقربة، وفي يوم من الأيام، حاولت الدبة أن تطرد ذبابة كانت تزعج صاحبها وهو نائم، فضربت الذبابة بصخرة فقتلت صاحبها من حيث أرادت أن تنفعه.!





































