قف هنا معي برهة عند هذا المعنى الغريب الجميل.

وما أكثر ما تثيرنا تلك المعاني التي يجتمع فيها الضدان، فتنطق باسم الجمال حينما تحوي معنى الغرابة..!!

العراك والنزال والخصومة تنسي النفس أي مكرمة للخصم، ولا ترى من وجوده إلا النقائص والمعايب، ولا يمكن أبدًا أن تعترف للند بفضل أو مقام..

هذا يا أخي ما يحدث في دنيا الناس، لكن أصحاب النفوس العظيمة منهم، قد تحتد المعارك بينك وبينهم يوما ما، وحينما تتحول الأقلام إلى عصي لتهشيم العظام، وإلى سيوف تنهب لحم الغرماء لتملأ الساحات دماء وأشلاء.. في وسط هذه المعارك الطحون، والمجازر التي لا تبقي للود مكانا أو عرفانا.

هنا تتجلى هذه النفوس العظيمة، لتنحني لجلال الخصم، معترفة بفضله وعبقريته، مُقرة بسموه، إنها لحظة يعلن فيها صاحبها تجرده وبراءته من معالم الحقد وظلام الضمير.

وفي الوقت الذي يطبق فيه الحقد على كثير من القلوب، تأتي قلوب العظماء طاهرة مطهرة، جلية مجلية، من كل صهوات الكراهية والحقد.

إن القارئ لا يمكن أبدا أن يتخيل أن يقوم العقاد بكلمة شكر في ذلك الرجل الذي نال منه أبشع منال، وأسمعه مالم يقو أحد في العالمين على إسماعه له من غليظ القول وشديد اللفظ وعنيف التهم.

قال العقاد العملاق بعد وفاة الرافعي في أحد الحوارات : (إنني كتبت عن الرافعي مرات أن له أسلوباً جزلاً، وأن له صفحات من بلاغة الإنشاء تسلكه في الطبقة الأولى من كتاب العربية المنشئين، وقلتُ أنا لا أنكر عليه فلسفة البحث وصحة المنطق ودقة القياس. وهبنا توافقنا على المودة، ولم نتفرق في الخصومة).

إنك ربما لا تدرك حجم وقيمة وذهبية وسمو هذا الاعتراف، وذلك لأنك لم تقرأ على السفود، عليك أن تقرأ على السفود، حتى تعلم كم كان العقاد بهذا الاعتراف من عظماء الحياة.

ولعلي أضرب لك مثلا بنموذج آخر، أشد وأعتى في ممارسة الكبر البياني والعدوان القلمي والعراك الأدبي، إنه الدكاترة زكي مبارك، الذي عارك الجميع وعادى الجميع وسب الجميع وأعرب الجميع.

يقول زكي مبارك ويحكي دفاعه عن طه حسين ضد أعدائه وخصومه حينما كان الصفاء بينهما في أوجه:

"ثم نظرت فرأيت الشر يصل إلى الدكتور طه من رجلين لهما تأثير في الجمهور من الوجهة الدينية وهم الشيخ محمد عبد المطلب والأستاذ مصطفى صادق الرافعي فصوبت قلمي إلى صدر الشيخ محمد عبد المطلب في المقطم والأهرام فانزعج. وانسحب من الميدان. ولم أرد مصاولة الأستاذ مصطفى صادق الرافعي في جريدة (كوكب الشرق)؛ لأنه كان يملك من القدرة على الهجاء ما لم أكن أملك، فجعلت ميداني جريدة المقطم، وفيها الأستاذ خليل بك ثابت وهو رجل يهذب ما يصل إليه من المقالات، وكنت أعرف ما هو عليه من الأخلاق، فاكتب مقالتي بصورة لا يجوز أن يحذف منها حرف وكان الأستاذ الرافعي يشتم ويلطم فيهذب خليل بك مقالته فلا يبقى منها غير الهجاء، وبهذا انتصرت على كاتب لم تعرف اللغة العربية في العصر الحديث كاتبا أقدر منه على مصاولة الرجال."

هل تلحظ هنا أني آتيك بنماذج من أشرس الرجال في معارك القلم، فالعقاد هو من هو، وهذا زكي مبارك الذي حول قلمه إلى مدفعية فتاكة لا تجد نفسها إلا في المعارك، فإذا فرغ من حرب ينتقل إلى أخرى، وإذا فرغ من موقعة، اشتبك في أختها، ولقد كان الأدباء يفرون منه ويتحاشونه، وكان هو قد امتلأت نفسه حتى كادت أن تنفجر من الثقة بالنفس والغرور المفرط، الذي يتعالى به على الجميع .. وحاشاه أن يعترف لخصم له بفضل، لكنه هنا وأمام الرافعي الظاهرة، يقر بأنه لم ينتصر عليه أو يجاريه في معركة إلا بالخداع واللجوء للحيلة .

ولكنه مع هذه الخصومة ينزله مكانته ويمنحه حق اللائق به فيقول عنه: " وبهذا انتصرت على كاتب لم تعرف اللغة العربية في العصر الحديث كاتبا أقدر منه على مصاولة الرجال"

جرب نفسك اليوم أيها الكاتب المعارك، هل يمكن لك أو تقدر أن تنزل من علياء الخصومة والكبر الذي تمنيك به، فتعترف لخصمك بالفضل والمكانة؟

إن فعلت ذلك ووجدته من نفسك، فاعلم أن قاطرة العظماء تنتظرك لتلحق بها.