لازلت أذكر حالي وأنا في شرخ الشباب، حينما أشتري مجلة او جريدة يكتب فيها الدكتور حلمي القاعود، أذكر أن هيامي كان عظيما بالصحيفة، وأسارع لأنزوي في ركن من الأركان، لأنفرد بمقال القاعود ليكون أول ما أقرأ من الموضوعات المتنوعة، لقد كانت مقالاته تمثل جرعة دسمة من الحقيقة المتدثرة بالحماس والصولة والصلابة.
كان أسلوب الرجل فيه من القوة ما يعجبني، ومن الجرأة ما ينشيني كنت أحب القراءة له كثيرا.
وأنا فوق هذا أعده علامة من علامات الدعوة إلى الإصلاح الإسلامي، وبطلا من أبطال الهوية الدينية، والرجل بكتاباته الفكرية والأدبية العظيمة، كان أحد المناهل التي تربيت عليها واستقيت منها معارفي عبر مسيرتي التثقيفية، حيث رأينا فيها الوعي كاملا بقضايا الأمة ومشكلاتها وطموحاتها، ناهيك عن الشعور الذي يلمسه الكاتب من خلال السطور بغيرة الكاتب وجرأته في المناورة والمواجهة لمخططات الخصوم.
أزعم أن من أراد الفهم والوعي للواقع المعايش لا يمكن أن يتحقق له ذلك إلا بالمرور على كتابات الدكتور حلمي القاعود والتعرف على آرائه ونظريته وحلوله المقدمة لكل المشكلات.
الرجل قامة ثقافية كبرى ومن أساتذة الفكر والنقد الأدبي البارعين، لكن المجال لا ينفسح أمامه لأن هناك من يرفضون هويته الإسلامية واعتزازه الكبير بثقافته العربية، ورفضه لتيارات التغريب التي تريد هضم التراث الإسلامي وجوده وحقه وقد كان غصة مرة في حلوقهم.
لم يستطع التجاهل أن يقزم من وجود القاعود، أو يقضي على حضوره، لأن قلمه البتار ووعيه الرصين كان عصيا على كل محاولات التهميش.. فإذا به يفسح لنفسه بقوة القلم مكانا في مواجهة الشمس، يبادلها نورا بنور وضياء بضياء.
الدكتور القاعود ممن علمونا فقه المواجهة، فلم نره يومًا منشغلا بتوافه الأمور وصغائر الموضوعات، التي تطرح أحيانا بقصد الالهاء والتضليل والتعمية والخداع، وإنما كان دوما في طرحه كبيرا وعظيما يعرف هدفه وغايته، ويصوب بقلمه وفكره على العلل والمشكلات المباشرة التي تتفشى في حياة الأمة.
الدكتور القاعود لم يأخذ حقه اللائق به وهو من فرسان الأصالة الإسلامية، ويفوق بعلمه وقلمه كثيرا من البغاث الذي يملأ حياتنا زيفا وزورا وبهتانا، الدكتور القاعود من رموز الجيل العظيم، جيل المواجهة الذي شكل حائط الصد الإسلامي في العقود الأخيرة.
كان يمكن للرجل أن يهرول إلى الدنيا، وأن يسعى لمجده الشخصي، ويحقق مزيدا من الجاه والسمعة والذكر، لكن تمسكه برسالته وقيمه كان أعز عليه من كل رفعة رخيصة، لأنه يعلم ان الرفعة الحقيقية أن يكون جنديا من جنود الله، وليس عبدا من عبيد الدنيا الفانية الرخيصة.
أما الأجيال الحاضرة فما أشد خسارتها وهي تهرول هياما حول أسماء فارغة هاوية مضللة باسم الأدب والإبداع والفكر، وتترك جبال الثقافة الشماء التي يعد القاعود أحد رموزها الكبار، ونصيحتي للجيل المعاصر، تعقبوا كتب القاعود لتتعلموا منها الوعي والحكمة والبصر والمعرفة، بل تعلموا منها ما يحيق بمستقبلكم وبأمتكم من أخطار ومؤامرات، نحن بحاجة شديدة إلى القراءة للقاعود.
--------------------------
والله إني لأكتب هذه الكلمات ولم يصل الي علمي خبر موته ورحيله الا من تعليقات الأصدقاء فإنا لله وإنا إليه راجعون وقد غيرت العنوان بما يتناسب مع الفقد الأليم.
خالص العزاء للدكتور محمود القاعود