تئنّ جذوع الزيتون العتيقة، لا من وهج الشمس ولا من سياط الريح، بل من قلبها المتآكل؛ نارٌ تلتهم ما تبقى من شموخٍ أخضر. كل ثقبٍ في جسدها المحروق فمٌ فاغر يلفظُ زفراتٍ من رمادٍ أسود، ووهجٌ أصفر يرقص كأشباحٍ راقصة. الأرض حولها مرثيةٌ صامتة؛ سوادٌ يمتدّ، كوشمٍ قبيحٍ على جبين السهل.
يرمقها الفلاح صالح من بعيد، عيناه الغائرتان تستعيدان سنينًا مديدة قضاها تحت ظلالها الوارفة، قبل أن تبتلعها تلك اللحظة المجنونة. الحريق ليس مجرد لهيبٍ عابر. كانت طعنةً في خاصرة الذاكرة، ونهبًا لأعمدة الصبر. تذكر كيف كان يجلس تحتها، يراقب حبات الزيتون تنضج، كعيونٍ خضراء تطلّ على الأفق. تذكر ضحكات أطفاله وهم يتسلقون فروعها القوية، وكيف كانت تمنحهم الظلَّ والمأوى.
يقترب صالح ببطء، خطاه مثقلةً بالأسى، كأنما يحمل جبلًا من الأحزان على كتفيه. يمدّ يده المرتعشة نحو الجذع المتفحم، فتتطاير بعض الجمرات الخفيفة، كنجومٍ محتضرة. يهمس لنفسه بمرارة: "حتى أنتِ يا صديقتي، لم تسلمي من قبح العالم".
وفي تلك اللحظة، بينما كانت أنفاسه تختنق بحرقة الدخان، يلمح شيئًا يلمع عند قاعدة الجذع. ينحني بذهول، فيجد وعاءً فخاريًا صغيرًا، وقد احتفظ ببرودته بشكلٍ غريب وسط هذا الجحيم. ترتجف يداه وهو يلتقطه. كان الوعاء ثقيلًا. يفتحه ببطءٍ شديد.
لم يكن بالداخل سوى حفنةٍ من الزيتون الأسود اللامع، الذي لم تمسسه النار بسوء. كل حبةٍ تحمل بريقًا خافتًا، وكأنها لآلئ سوداء خرجت للتو من رحم الظلام. يتملكه مزيجٌ من الدهشة والذهول. يرفع إحدى الحبات إلى أنفه، فيشمّ رائحة الأرض، ورائحة المطر، ورائحة الحياة.
وبينما يتأمل الحبات السوداء، ينبعث صوتٌ خافتٌ من داخل الوعاء، كهمسٍ أتى من أعماق الزمن. لم يكن صوتًا مسموعًا بالكلمات، بل رجفةً في الهواء، شعورٌ بالانتصار الكامن في قلب الفناء.
ينظر صالح إلى الزيتونات، ثم إلى الشجرة المحروقة، ثم إلى الأفق الملطخ بالرماد. ترتسم على شفتيه ابتسامةٌ مريرة. النيران لم تأتِ على كل شيء. بل أتت لتُعيد الميلاد.
يضع حبات الزيتون في جيبه، ويقرر أن يزرعها من جديد. ليس في هذه الأرض المحترقة، بل في قلبٍ جديد.
وحين يرفع رأسه ليلقي نظرةً أخيرة على شجرة الزيتون المحترقة، يرى شيئًا لم يكن قد رآه من قبل. من بين الثقوب المحروقة في الجذع، حيث كانت النيران تتراقص قبل قليل، تبدأ براعم خضراء صغيرة جداً، خجولة وهشة، تدفع نفسها نحو الضوء. علامات للحياة الجديدة، تنبض من قلب الموت.
صالح يدرك: هذا ليس مجرد حريق، بل تطهير. تلك النيران، التي ظن أنها قضت على كل شيء، كانت في الحقيقة بذرة لحياةٍ أخرى.
وفجأة، يتوقف الزمن. يلتفت صالح خلفه، فيرى ظلًا طويلًا يقف خلفه. ليس ظله هو. إنه أكبر وأكثر كثافة. يلتفت صالح ببطء، ليجد رجلًا يقف على بعد خطواتٍ قليلة منه، يرتدي ثيابًا سوداء قاتمة، وعيناه تلمعان كجمرٍ خفيّ. لا يحمل الرجل أي شيء، سوى ابتسامةٍ باردةٍ تكاد لا تُرى.
"أتعلم يا صالح؟" يقول الرجل بصوتٍ عميقٍ هادئٍ، يكاد يذوب في هدوء المكان المحترق، "تلك الزيتونات التي وجدتها، هي بذرة شجرتك القادمة. ولكن... هل تعلم لمن كانت تلك الشجرة في الأصل؟"
يتجمد صالح في مكانه. لا ينبس ببنت شفة.
"إنها لي، يا صالح. كانت لي، وستعود لي." يكمل الرجل بهدوء. ثم يمد يده. تحمل يده آثار حروقٍ قديمة، لكنها قوية وثابتة.
يُحس صالح بقبضةٍ باردةٍ تخنق روحه. يرفع رأسه، محاولًا أن يجد تفسيرًا أو معنى. لكن عينيه لا تريان سوى حقيقةٍ واحدةٍ مرعبة.
لقد كانت الزيتونة الأولى، الشجرة الأم، التي زرعتها يداه، ملكًا له. لكن هذا الرجل الذي ظهر من العدم، كان يمتلك كل شيء. حتى رماد شجرته المحترقة.
في تلك اللحظة، يستدير الرجل، وبخطواتٍ بطيئةٍ ثابتة، يختفي في غياهب الدخان المتصاعد. يترك صالح وحيدًا، واقفًا في صمتٍ مطبق، وشعورًا بالبرد القارس يتسرب إلى عظامه. كان الرجل قد غادر، لكن كلماته بقيت تتردد في أذني صالح، كصدىً لواقعٍ قاسٍ.
صالح، الذي ظن أنه وجد الأمل، لم يجد سوى حقيقةٍ مريرةٍ: أن النار، مهما حرقت، فإنها دائمًا ما تترك خلفها شيئًا لمن يمتلك الرماد. وأن الحياة، مهما حاولت أن تنبعث، فإنها دائمًا ما تعود ملكًا لمن أشعل الجحيم.
لم يصرخ صالح. لم يعد لديه صوت. فقط نظر إلى يده، ثم إلى جيوبه. كانت حبات الزيتون لا تزال هناك. لم تتحول إلى رماد. بقيت باردة وثقيلة، وكأنها تحمل سرًا أزليًا. يرفع رأسه مرة أخرى نحو الشجرة المحترقة، ويرى البراعم الخضراء الصغيرة. لم تذب. بقيت خجولة وهشة، تدفع نفسها نحو الضوء، غير عابئة بالظلام الذي مر بها.
لم يدرِ صالح إن كان هذا تحديًا أم مجرد وهمٍ آخر. لكنه، للمرة الأولى منذ زمن بعيد، لم يشعر بالاستسلام التام. كانت يده لا تزال قابضة على الزيتونات. وكانت البراعم الخضراء تتنفس. ربما لم يمتلك الرجل النار كلها بعد. وربما، كان هناك شيءٌ واحدٌ فقط لم يستطع أن يمتلكه... بذرة الأمل الكامنة في قلب صالح نفسه.