غرقت المدينة في صمت مطبق خانق، يلفها ركود لا يكاد يسمح حتى بمرور النسيم. في هذا الهدوء المخيف، بدأت مشاعر جديدة تتشكل في أعماقه، تتجاوز مجرد الإعجاب، لتصل إلى تعلق عميق بها. كانت شروق كفجر يشق عتمة روحه، وغيثا أحيى يباب فؤاده. لكن، حتى في أوج هذا النور الساحر الذي أضاء حياته، كانت ظلال خفية تتبعها كوشم قديم، وهمسات عابرة تحمل قلقا مبهمًا، وإشارات صغيرة لم يعرها اهتمامًا كافيًا. فجمالها الأخاذ كان حجابًا يخفي سرًا عميقًا وخطرًا محدقًا.
كلما غاصت عيناه في عينيها، غرق في سحر أزلي لا يقاوم. صوتها الهامس كان قيثارة عشق تعزف أنغامًا خالدة في أروقة الروح، فينتفض كيانه طربًا. في قربها، تلاشت مخاوفه كلها، وسرت السكينة في عروقه المنهكة. أحبها حبا يتغلغل في أعماق الروح، يزداد توهجًا وعمقا مع كل نبضة من قلبه، فقد وجد فيها توأم الروح ورفيقة الدرب الأبدية.
كانت أيامهما نسيجًا من الأحلام المتداخلة؛ ضحكاتهما تملأ الفضاء صخبًا، وهمساتهما تكسر سكون الليل الداكن. لكن رغم كل هذا الضياء الذي يغمرهما، كانت تلك الظلال تستطيل ببطء وثبات، ومعها شعور متزايد بالترقب القاتم. كلمات مقتضبة منها عن "ضرورة الاختفاء" أو "عيون تلاحقها بلا رحمة" كانت تندس في وجدانه، تنغص قلقه الخفي. ومع ذلك، كان سحر جمالها المطلق يطغى على كل الشكوك، ويعميه عن رؤية الحقيقة.
تسللت يد القدر الغاشمة، وعزفت لحنًا شجيًا لم يكن ليتوقعاه أبدا.
في ظهيرة لاهبة تحبس الأنفاس، بينما كان ينتظرها كعادته في مكانهما المفضل، توقفت الدنيا عن الدوران في لمح البصر. لم يخترق سكون المدينة صدى صافرة إنذار عادية، بل كان دوي هائل زلزل المكان الذي اعتادت التواجد فيه، وكأنه انفجار استهدفها هي بالذات. ارتجت الأرض بعنف تحت قدميه، وتبعثرت معها أجزاء روحه الممزقة. حين وصل إلى المكان، لم ير إلا دمارًا شاملًا مهولًا، غبارًا كثيفًا يحجب الرؤية تماما، وصراخًا يمزق القلوب ويدمي الآذان. بحث عنها في كل زاوية مهدمة، نادى اسمها حتى بح صوته وتحشرج أنفاسه، لكن لا أثر لها. عاد فؤاده يبابًا بلا أمل أو عزاء.
أيام توالت كرماد يتطاير في مهب الريح. كان يبحث عن صدى ضحكة قديمة أو همس خافت. صورتها تلازمه كظل، وصوتها يتردد صداه في أذنيه كصدى أشباح لا تفارقه. وفي إحدى الليالي الموحشة التي لا نهاية لها، بينما كان يتصفح الأوراق القديمة التي تحمل عبق ذكراهما العذبة، عثر على قصاصة ورق بالية، خطت عليها بيدها حروف متعرجة تكاد لا ترى:
"حبيبي، إن رحلت يوما... لا تبحث عني. ابحث عن صندوق الأمانات في بيتنا القديم، وستجد الحقيقة هناك. سامحني يا نور عيني. لقد كان كل ما فعلته لأحميك."
تصلب في مكانه كالصنم، وشعر بدوار لم يعهده من قبل، ولهيب شك بارد مزق أحشاءه بعنف. لم تكن هذه كلمات وداع عادية! كانت وصية غامضة تنذر بخطر مجهول، وشعورًا مؤلما بالخيانة التي لم يتوقعها. كيف فاته كل هذا؟ كيف لم ير ما تخفيه؟
لطالما ظن أنها نور عينيه، ومصدر كل ضياء في حياته، ورمز للجمال والنقاء المطلق. لكن هذه القصاصة كشفت سرا عميقًا كانت تخفيه ببراعة. من هي حقًا؟ وما الحقيقة المروعة الكامنة في الصندوق؟ هل كان النور الذي رآه قناعًا لظلام أعمق؟ بفقدانها، لم يفقدها هي فقط، بل فقد أيضًا قدرته على الثقة بهذا النور الذي طالما اعتقد به.