تلاشت اتجاهاتي، كإبرةٍ فقدت خيطها في ثوبٍ سحيق. تهاوت عروش أملي، كقصور رملية ابتلعها مدٌّ غادر، لتبقى روحي قماشًا ممزقًا ينتحب في صمت العدم، متوقةً إلى خيط قدرٍ لم يُنسج قط.
كل فجر، كان شبحٌ خافتٌ يلوح من النافذة المقابلة، ملقيًا بظله الباهت على زجاج روحي المتصدع. ومع كل مغيب، كان الشبح يغمض عينيه كغريق أصرَّ على الغرق. كنت أراهما يتلاشيان، روحين معذبتين تتعانقان في فراغ أوسع من الكون ذاته. ومع كل تلاشٍ لتلك الأرواح، بدأ صوت الحياة يتلاشى هو الآخر.
صار الصوت هشًّا كآخر رسالة تهمس بها شاشة زائفة: "وصلتُ بخير". وفي لحظات قليلة، ابتلع المحيط قاربًا وابتسامةً أخيرة، تاركًا خلفه صدى موحشًا لوعدٍ غُمر لم يُقدّر له البقاء.
أيقنتُ حينها أن هذا المحيط ليس بحرًا، بل هو العدم ذاته، حيث يبتلع عمق اليأس كل رسائل الأمل قبل أن تصل إلى ضفاف الوعي. كان اليأس يتبعني كظلٍّ يتراقص مع وجودي، يعلن سطوة الفناء، تاركًا خلفه شاهد قبرٍ بلا اسم، شهادة صامتة على عبثية الرحيل.
لكن فجأة، وفي قلب هذا العدم المطبق، تسلل لحنٌ شجيٌّ من زاوية الشارع البعيدة. مزّق الصمت المطبق كسكينٍ حاد، فأيقظ أرواحًا ظمأى في قلبي المتحجر. كان عازفًا أعمى، يداه تنسجان أوتار القدر، يُبصر من خلال لحنه ما لم تبصره عينَيَّ المنهكة.
دنوتُ، أسحب خطواتي المثقلة. وجدت العازف نفسه يرتجف، وآهةٌ حارقة تنبعث من أعماقه. قال بصوت مبحوح بالكاد سُمع: "لحني العذب لا يصدح إلا على إيقاع عبث العالم، وكل جمال ليس سوى صرخة وحيدة في صحراء اللامبالاة الشاسعة."
اهتز كياني لكلماته، فبصيرته كانت مرآةً كاشفة لعمائي، وعمى العالم أجمع. ظللتُ أترقب عند العتبة المشْرَعة. كانت بابًا مفتوحًا على فضاء من الوهم، حيث ظلال راقصة تسيطر على عقلي. ترقبٌ عقيم لخلاصٍ لم يأتِ أبدًا.
لم يأتِ أحدٌ، سوى ريحٍ عاتية حملت صدى خطواتٍ لم تُسمع قط. حينها أغلقت الباب على لا شيء سوى الفراغ. وعندما التفتُّ، أدركتُ أن الباب لم يُغلق على العدم الخارجي، بل على انتظاري أنا. وأن الفراغ هو الشريك الأبدي الذي يرافق الوجود دائمًا.
بحثتُ عن الضحكة المفقودة في متاهات الصور البالية، في رفات الذكريات المتآكلة. وجدتها، ما زالت ترتعش في تجاعيد مرآةٍ مهشّمة، كشبح أملٍ يراقص رفات ماضٍ محروق، يذكرني بسعادةٍ اندثرت تحت رمال الألم. كان صوتها صدى لشمسٍ غاربة، لم تعد تُشرق أبدًا.
وحين انطلق القطار، مزّق صرير احتكاكه بالقضبان آخر خيطٍ رفيع من شفق الوجود، معلنًا نهاية كل شيء. لوّحتُ بيدٍ ارتجفت كقصيدة أخيرة لم تُكتب بعد. سمعتُ صوتًا يتردد في أذنيَّ، ليس صدى خارجيًا، بل همسًا من أعماق روحي: "لقد وصلتُ أخيرًا." لم يكن صوتًا غريبًا، بل كان صوتي أنا. ثم اختفى الكون كله في صمتٍ أبدي عميق.
التفتُّ إلى النافذة المقابلة، حيث لم يعد هناك شبحٌ يلوح، سوى انعكاسي الباهت. لا يبتسم، وحيدًا. وقد انفتحت الآن أمامي، لا أمامه، سراديب الانعكاس الأخير على العدم الذي كنتُ أهرب منه طوال حياتي. لأُدرك حينها أنني لم أكن أهرب من العدم، بل أهرب من نفسي؛ العدم الأعمق.