أتهادى بين أغصانها الشائكة، تخدشني بهدوءٍ وتطلق عبيرًا ترابيًا قديمًا يمتزج بوشوشة الريح العابرة، أرتشفُ من ظلها العتيق سكينةً، وأُنصتُ لحكايا أجدادٍ سكنوا هذه الأرض قبل أن يُعلِّمَ العطشُ الصخورَ الأنين. جذعها، عمودٌ شامخٌ من زمنٍ منسيّ، يحملُ على كاهلهِ سقفًا متشابكًا من الأغصانِ، كأذرعِ كائنٍ أسطوريٍّ يعانقُ السماءَ العابسة. كلُّ شعبةٍ، فرعٍ، ونتوءٍ فيها، يرسمُ وشمًا في ذاكرتي.
تسللتُ ببطءٍ نحو الجذع، كأنما أخشى إيقاظَ روحها النائمة، أو إزعاجَ حرسها من الرياحِ العاتية. كان في تكوينها سرٌّ غامضٌ يوحي بأنها مكتبةٌ صامتةٌ تختزنُ أسرارَ الوادي، وتاريخَ كلِّ من مرَّ من هنا، تاركًا أثرَ خيبةٍ أو صدى حنينٍ.
ومضةٌ غريبةٌ اخترقتْ سُمكَ الأغصانِ، لامستْ جلدي المُتعَبَ، كأنها وميضُ شمسٍ. رفعتُ بصري، لألمحَ خيطًا قرمزيًّا بعيدًا، يتراقصُ فوقَ قمةِ تلٍّ موحشٍ. نبض قلبي بشعور غامض، مزيج من الفضول والخوف، كأن هذا الوميض يحمل في طياته قدرًا وشيكًا. لم يكنْ سوى شخصٍ برداءٍ أحمرَ قانٍ، كنقطةِ دماءٍ على لوحةٍ رماديةٍ. كان يلوّحُ بيدهِ بصمتٍ، إيماءةٌ غامضةٌ اخترقتْني كسهْمٍ مُشِعٍّ.
حدّقتُ فيهِ، أحاولُ فكَّ شفرةَ وجودهِ. من هو؟ ولماذا يقفُ وحيدًا في هذا العراءِ؟ رسولُ قدرٍ أم ظلُّ حقيقةٍ مُرَّةٍ؟
فجأةً، انشقتْ الأرضُ تحتَ قدميّ، اهتزَّ الجذعُ الضخمُ، وسقطتْ أغصانُ الشجرةِ الهائلةِ، لاصقةً بي بالأرضِ كجلدٍ ميتٍ. شعرت بهزة عميقة من الأعماق، كأن الجذور نفسها تطلق صرخة مكتومة قبل أن تستسلم، لم يكنْ هناك صراخٌ ولا غبارٌ؛ بل صمتٌ ثقيلٌ، وكأنّ الشجرةَ قد لفظتْ أنفاسَها الأخيرةَ في لمحةِ بصرٍ.
عندما حاولتُ النهوضَ، لم أجدْ جسدي. نظرتُ إلى يديّ، فوجدتُهما أغصانًا صغيرةً تتشابكُ وتنمو، لتُكوِّنَ جذعًا جديدًا. رفعتُ بصري، لأرى ذلكَ الخيطَ القرمزيَّ لا يزالُ يلوّحُ، لكنه هذه المرةَ كان أقربَ. كان يلوّحُ لي أنا، الشجرةَ الجديدةَ التي نبتتْ من رُكامِ ماضٍ، مُعلنةً عن بدايةِ أسطورةٍ أخرى، في دورةٍ لا تتوقفُ من الموتِ والحياةِ. وفهمتُ حينها أنَّ من كان يلوّحُ لي من بعيدٍ لم يكنْ إلا أنا، في هيئتي القادمةِ.