في ردهة خانقة، ترشّف الليل صمتًا كفيلًا بالكسر. يتلوى الدخان، شبحَ همسٍ مبهم، يُراقص هرمين من البشر: الأول ضامر، عيناه كهفا جفاف، يتجرّع الرذاذ بتؤدة، كمن يفكّ رموزَ نقشٍ سحيق. على الضفة الأخرى، يتأرجح ممتلئٌ بجسده، يقتطع ضحكةً مدوّية ترتدّ أصداؤها عن الجدران العارية، ممسكًا بخرطوم الشيشة كحاكمٍ لزمام أمر، وبريقُ عينيه يشي بدهائين قابعين.
انقطعت الضحكة فجأة، كصوتِ قيدٍ يتحرّر. رفع الممتلئ خرطومه عن ثغريه، مُحملقًا في رفيقه بترقّبٍ يكسوه تحدٍّ. كانت عيناه تتضرّعان، تَلُوحُ فيهما رجاءُ اعترافٍ، أو لُجينِ تقديرٍ يسدّ هوةً عميقة.
امتدّ الصمت، أثقلته نكهة التبغ الكاوية وقرعُ الانتظار. رفع النحيل رأسَه ببطءٍ مهيب، تلاقت عيناه بابتسامة صاحبه الواثق. ارتسمت على شفتيه بسمةٌ بالكاد تظهر، كشفقٍ يحتضر.
"إنها... محض كلمات." همس النحيل، وكأن كلّ حرفٍ ينكثُ ثقلًا على لسانه. "أصدافٌ خاويةٌ على شاطئٍ مُجدب. لا صدى لها سوى خواءها الأبديّ."
تصلّبت ملامح الممتلئ، فانقبضت ضحكته في بلعومٍ كالصخر. حدّق بصديقه، فغرّبت وجهه مرارةٌ لم تكن في الحسبان.
تابع النحيل، صوته مشبعًا بزمهرير الجليد: "لا روح فيها. هي كظلّ شجرةٍ موؤودة، لا تمنح فيئًا ولا تثمر. مجرّدُ هياكلَ تتأرجح في ريح النسيان العاصف."
ارتعش الممتلئ، وارتجفت يده التي احتضنت الخرطوم. انغرست الكلمات في جوفه كشظايا تذرّت كلّ ذرةٍ من يقينه.
"ولكن..." حاول الشروع، صوته يتهاوى.
"ولكن ماذا؟" قاطعه النحيل بحدة، عيناه تستعران بغضبٍ مكبوت. "وضعتها أمام ناظريّ لتُرى، وها أنا أستبينها بوضوحٍ لا لَبْسَ فيه. إنها... صدى للعدم!"
دفع الممتلئ الشيشة جانبًا بضجر، ونهض بجهدٍ عظيم، وكأن كلّ خطوةٍ تستنزفُ من عمره دهرًا. حملت عيناه مزيجًا موجعًا من السخط والخذلان. بلا كلمةٍ، استدار نحو الباب، وابتلعته عتمةُ الممرّ.
استأنف النحيل ارتشاف دخان شيشته، يتصاعد كقرابين الفراغ الذي خلفه المغادر. ارتسمت ابتسامةٌ عريضة، حقيقيةٌ هذه المرة، على شفتيه الضامرتين. تمتم لنفسه، صوته يمتزج بوشوشة الدخان: "المرة الوحيدة التي ينجلي فيها الصدق لعيوني... فمتى أبصرَ العميان؟"
ثمّ سحب من جيبه دفترًا عتيقًا مُتهالكًا، وقلّب صفحاته الصفراء البالية. قرأ في صمتٍ سطورًا مخطوطة بخطٍّ يرتعش، سطورًا كتبها... ذاك الذي أملى على النحيل هذه الكلمات بالذات، لسنواتٍ طوال.