كانت الألوان يومًا ترقص على لوحات آدم، تهمس بروحه إلى كل من يتأملها في معارض المدينة الصاخبة. كانت ريشته تولد حياةً من كل ضربة، لكن تلك الأيام باتت ذكرى بعيدة ومريرة. ديونٌ متراكمة، عقودٌ فاشلة، ونقدٌ قاسٍ أطفأت جذوة شغفه شيئًا فشيئًا. بهتت ألوانه، وسقطت ريشته، حتى لم يعد يرى سوى الرماد.
تثاقلت الظلال في عينيه، وغلفه غبار اليأس الكثيف. كان وجهه المنهك من الليالي الطويلة مختبئًا بين يديه، يهمس بأسى لا يقوى على كبحه: "هذه هي النهاية". وبينما كان يستسلم لثقل الهزيمة، رأى خيطًا أسود سميكًا يمتد من سقف عالٍ إلى هاوية بلا قاع، يلوح له بدعوة أخيرة.
وعلى حافة الهاوية، في لحظة حاسمة، لمعت حركة مفاجئة على الحبل. لم تكن نذير شؤم، بل فراشة زاهية الألوان، واحدة فقط، تتوالد من الحبل نفسه! من خيوطه المتشابكة، انبعثت روح ملونة نابضة بالحياة، تتلوها أخرى، ثم أخرى. وكلما زادت الفراشات عددًا، خف سواد الحبل وتلاشى تدريجيًا، متحولًا إلى غبار مضيء يتطاير معها نورًا وبهجةً.
نظر آدم بذهول، ويداه ترتفعان ببطء عن وجهه، إلى الحبل الذي تحول من رمز للموت إلى مصدر للحياة. الفراشات، التي كانت تهرب من ظلامه، تجسدت روحًا جديدة له، حاملة رسالة نقشت في وجدانه مع كل نبضة من أجنحتها: "لا تقتل نورك". ومع هذه الرؤيا الساحرة، اختفى الحبل تمامًا. رفع آدم رأسه، وعيناه لا تزالان مدهوشتين، ليرى ورقة بيضاء لم يلحظها من قبل، كُتب عليها بخط عريض، يبدو كأنه خُط بلهيب الشغف القديم: "الفن لا يموت، إلا إذا قتله صاحبه".
تقلصت معدة آدم بقوة، كأن صدمة الإدراك عصرتها. لم تكن تلك الكلمات دعوة يائسة للانتحار كما ارتعب ظنًا لأول وهلة، بل كانت صرخة مدوية تنبعث من أعماقه، لفنه الموشك على الانطفاء على يديه هو. كانت الفراشات صحوة عارمة لروح ظن أنها استسلمت للموت البطيء.
بقبضة ثابتة، التقط آدم فرشاته المنسية. حاول أن يمسكها، لكن يده ارتجفت للحظة، صور الفشل الماضي تومض في ذهنه. هل يمكن للألوان أن تعود للحياة حقًا؟ أغمض عينيه بقوة، وتذكر الرسالة التي نقشت في وجدانه. لم يكن الحبل مجرد خيط أسود، بل مرآة عكست خوفه الأعمق: خوفه من الحياة، من المحاولة مجددًا، من السقوط.
فتح عينيه مرة أخرى، وهذه المرة لم يجد سوى اليقين. عاد يرسم بشغف لم يعرفه منذ سنوات، والفراشات تضيء عالمه ببهجتها. لم يعد يرى خيط اليأس الأسود الذي كان يخنقه، بل ألوان الفراشات المتلألئة التي ملأت روحه بالحياة. انغمس في الرسم بكل كيانه، والفراشات تراقصه في رقصة أبدية، تلون عالمه بنبض من الأمل المتجدد.