ليلٌ هجيرٌ خانق. في عتمة بيته، انقبضت كف عليّ على ذرة رمل باردة؛ وزنها يرسو في راحته المتعرقة. ليست رملًا؛ إنها أرضٌ تئنّ. غضب وكبرياء شدّا ملامحه.
من وراء الحدود، همسٌ بارد تسلل، لاذع كالريح. وخزٌ حاد زحف في أوردته، جمّد دمه. نظرات الجيران المريبة، شاحبة كالموتى، تتبعت خطواته. ضيقٌ خانق حاصره. ضحكات الدخلاء تعالت، معاول تغرس في صميم أرضه. أسوار وهمية ارتفعت، خنقت أنفاسه. شد ساعده، غرز معوله العتيق بعمق في الأرض الظمأى، طاعنًا عدوًا خفيًا. "هل سيبيعون تراب آبائهم؟" تمتم، صوته المرير تلاشى في حرارة الليل.
تعمقت الوخزات، وحُولت إلى حرقة تستعر في جوفه. الأرض، بصلابتها، شربت عرقه قطرة قطرة، ابتلعته بشراهة. ومع كل قطرة، تشكلت صورة في الظلام: حقول جُرّدت، اهتزت، ثم انبثقت سنابل ذهبية تتراقص حياةً تحت شمس بدأت تظهر. خطت قدماه الثقيلتان نحو ينابيع تخيّلها تتدفق، مياهها تلمع لأطفاله. ومع كل خطوة، أجابته الأرض، مثبتة خطاه.
من بعيد، تألقت تلك الحقول المزدهرة بوضوح مؤلم في عيون الدخلاء. رأوا أطفالًا حقيقيين يتسابقون بين السنابل الذهبية، ضحكاتهم الرنانة تملأ الأفق. انقبضت شفاه الدخلاء، وشحبت وجوههم، اتسعت ذهولًا ثم ضاقت بخيبة أمل لاذعة. آمالهم تلاشت كخطوط على الماء. الأرض امتصّت سمومهم، وبصقت حياة وخصبًا في وجوههم المتحجرة. تراجعوا ببطء، وجوههم تنضح بالهزيمة، وعيونهم الجشعة تحمل نظرة يأس.
عند الفجر، رسم ضوء الشمس ملامح السهول الخضراء المترامية. وقف عليّ، يداه متشققتان، قابضًا على سنابل القمح المتوهجة. وجوه الدخلاء الشاحبة انعكست في ضوء الشمس خلف الحدود، تراجعت كأشباح في ضباب الصباح، تاركين هزيمة مدوية.
في ذلك الصباح، لم تنظر عينا عليّ إلى سنابل مزعومة. نظر إلى تلك الأرض التي كانت يومًا مصدر ندبه العميق. ندبة حُفرت مع كل وخزة، مع كل قطرة عرق، تشعّ الآن قوة تحت شمس ساطعة.
الأرض وحدها كانت تنبض بالحياة، خصبة، قوية تحت قدميه. عليّ، يداه متشققتان، ميراث الأجداد يمتد أمامه في السهول.