الشمس ترسم خطوطًا قاسية على رمال خان يونس، محفورة بعمق لا يقل عن تجاعيد الجوع التي شوهت وجوه الناس. في ذلك اليوم، لم يرتفع صوت الرصاص العالي، بل همس البطون الخاوية هو من اخترق الصمت. "أين أمي؟" همست زينب، الفتاة ذات السنوات السبع، لشقيقها الأصغر مصطفى الذي تشبث بثوبها المهترئ كخيط حياة أخير. عيناه الواسعتان، اللتان لم تعودا تريان سوى السراب، بحثتا في الأفق الغائم عن شبح أمٍ غابت منذ أن ذهبت لجلب الماء، أو ربما البحث عن لقمة طعام لم تعد تأتي. زينب تتمسك بذكرى واهنة لدفء فرن أمها ورائحة الخبز الطازج، ذكرى تتلاشى ببطء، مثل رسومات الأطفال على الرمل تمحوها الريح القاسية، تاركةً فراغًا باردًا لا يملؤه سوى وجع خفي في جوفها الصغير.
أميال قليلة عبر تراب مهزوم، في جباليا، لم يكن الحال أقل قسوة. حقول الزيتون التي كانت يومًا خضراء يانعة تحولت إلى أشباح من الأتربة المتشققة، عظام بيضاء تنهشها الريح الجافة. أمضى الحاج محمود، الرجل الذي عاصر حروبًا ووطأ تراب هذا البلد بقدمين راسختين، أيامه جالسًا على عتبة بيته المهدم جزئيًا. عيناه لا تنظران إلى الأفق البعيد، بل تتأملان فراغًا داخليًا يوازيه فراغ الأرض القاحلة من حوله. "لم نرَ جوعًا كهذا من قبل يا بني،" تمتم لابنه العائد من رحلة بحث فاشلة، صوته يعانق الصمت المؤلم الذي يلف المكان. "الأرض كانت تعطينا بغير حساب، والآن تأخذ منا كل شيء... حتى القدرة على رؤية الغد." هذا الصمت، ثقيلًا كأكفان الموتى، يقطعه أحيانًا نحيب طفل يتيم يخفت ببطء في خيمة مجاورة، أو أنين شيخ يصارع المرض والموت البطيء. تلك الأصوات، وإن خافتة، صدى للجوع الذي يلتهم كل شيء حوله.
في قلب غزة، المدينة التي ضجت يومًا بالحياة وصخب الأسواق، أصبحت الشوارع الآن ممرات للأشباح، يتخللها صمت موحش. المنازل المهدمة تقف شاهدًا صامتًا على قصة دمار لم تروَ بعد. حنان، الممرضة التي لم تعد تجد دواءً لمرضاها سوى الماء المالح وبعض الكلمات المعجزة، تتنقل بين الخيام المكتظة. تحمل في يديها القليل، لكن قلبها المكسور يفيض بمواساة لا تنتهي. في خيمة مظلمة، وجدت امرأة تحتضر، طفلها الصغير يمسك بيديها الباردتين، عيناه تحدقان في الفراغ. لم يكن بوسع حنان سوى الجلوس بجوارهما، تقرأ ما تيسر من آيات القرآن، وتحبس دموعها التي رفضت الجفاف. في تلك اللحظة، لا تشعر بالإرهاق الجسدي فحسب، بل بثقل وجودي خانق، كأن وزن العالم كله سقط على كتفيها. كل ما تعلمته في كتب الطب بدا بلا معنى أمام هذا العجز الكلي، وشعور لاذع بأنها مجرد شاهدة عاجزة على نهاية عالم، يتسلل إلى أعماق روحها ويجمدها.
القلوب في خان يونس وجباليا وغزة تخفق بنبض واحد، نبض الجوع الذي وحدها في بئر عميق من الألم. الأمهات يراقبن أطفالهن بقلوب ممزقة، كل نبضة فيها صرخة مكتومة تكاد أن تمزق الصدر. العاجزون يتمنون الموت لإنهاء معاناتهم، بينما الأطفال، ببطونهم المنتفخة وأجسادهم الواهنة، لا يفهمون لماذا اختفى الطعام ولماذا أصبحت بطونهم تؤلمهم بهذا الشكل المرير. لا يوجد حديث عن السلام أو الحرب، بل عن قطعة خبز، عن شربة ماء، عن يوم جديد قد يحمل معه بصيص أمل. لكن الأمل، كالغذاء والماء، أصبح عملة نادرة في زمن الجوع العظيم الذي اجتاح الأرض، مخلفًا وراءه أرواحًا معلقة بين الحياة والموت، ورمالًا صامتة لا تحمل سوى شهادة قاسية على عالم أدار وجهه تاركًا إياهم للنسيان.