على أرض موحشة، اختنق الأفق بضباب كثيف يلتف كالقبضة الباردة. خطوات ثقيلة تتجرع طعم العدم، وأغصان عارية تئنّ لرياح قاسية كأنها هياكل تهمس بحكايات الموت القديمة. شعرها البني انسدل كشلال جامد على كتفيها، وثوبها الأبيض يرفرف كشراع ممزق مع كل هبة ريح. عيناها حملتا ثقل حزن سحيق: قلق وأسئلة معلقة عن سبب وجودها ومكمن النجاة.
وفوق حيرتها، بدأت ظلمة متحركة تتشكل فوق رؤوسهم؛ كيان هائل يتنفس ببطء مؤلم، يضيء بوهج شاحب يكاد يلتهم الضباب. كانت رئتا الموت تتوسعان وتنكمشان كآخر أنفاس عالم يحتضر، وكل شهيق يسحب جزءًا من الروح المحيطة، محولًا الشرايين المتوهجة فيه إلى أغصان شجرة ميتة. انكمش صدر فاطمة، وكأن هواءها يُسحب قسرًا، وتسلل برد عميق إلى عظامها. لم يكن هذا الكيان مجرد مشهد، بل وحش يبتلع، يحيل كل أمل إلى رماد.
اندفعت فاطمة بخطوات متعثرة نحو نقطة ضوء خافتة في الأفق. بعيدًا، لاح ما بدا وكأنه عش غراب أسود متربص، سرعان ما تبين أنه هيكل طائرة جاثمة فوق بناء مهجور، نوافذها كأعين الموتى التي تحدق في الفراغ. كانت هذه المدينة الخربة تلفها وتبتلعها شيئًا فشيئًا. الطائرة، بقية صامتة، كانت تهمس بقصص مدن أُبيدت ومستقبل تلاشى، محذرةً إياها من مصير محتمل.
حولها، لا شيء سوى قبور صامتة، شواهدها تحكي قصصًا لم تكتمل، بعضها بلا أسماء كأن أصحابها لم يطأوا الأرض قط. كل قبر كان صرخة صامتة مدوية في هذا العالم الميت. شعرت فاطمة بثقل الوجود يضغط على صدرها، وكأنها هي الأخرى قبر ينتظر اسمه، يائسة من أي أمل في النجاة. هل هذا هو المصير؟ هل ستختنق هنا، لتصير مجرد صدى آخر في هذا العدم؟
فجأة، لمعت حولها أضواء خضراء وزرقاء خافتة. يراعات مضيئة تتراقص، ليست مجرد حشرات، بل أرواح شهداء تحمل حكايات مدن دمرتها الحروب والأوبئة. بدأت تسبح حولها، لا بحثًا عن مخرج فحسب، بل تطوف كحراس، وكمنارات توجهها. شعرت وكأنها تهمس بقصص الفناء والأمل الخفي الذي لم ينطفئ. كلمات لم تسمعها بأذنيها، بل بقلبها المنهك، دعوة خافتة للمقاومة بدأت تتغلغل إلى روحها.
لم تكن فاطمة وحدها تمامًا؛ بين القبور، لمحت رجلين. أحدهما يقرأ كتابًا ممزقًا تحت ضوء خافت، والآخر يستمع إليه بإنصات شديد. في عيونهما بارقة أمل خافتة رغم الدمار، كأنهما يحرسان شعلة معرفة لن تنطفئ. شعرت برغبة عارمة في الوصول إليهما، وكأن وجودهما رابط أخير بالعالم الذي عرفته، ودليل صامت يذكرها بأن المعرفة السلاح الأخير ضد العدم.
كل خطوة مثقلة قربتها من فهم أعمق. رفعت عينيها نحو الرئتين الهائلتين اللتين كانتا تنتفخان وتنكمشان ببطء مخيف، ثم إلى الرجلين اللذين بدا وكأنهما ينتظران شيئًا ما، فالطائرة التي كانت رمزًا لماضٍ ولى، وأخيرًا اليراعات التي أحاطتها الآن كوشاح من الأمل. في تلك اللحظة، وبينما اليراعات تتراقص حولها كوشاح من النور، أدركت فاطمة أن هذه ليست مجرد حشرات، بل نبضات أرواح رفضت الاستسلام. القبور لم تعد مجرد صخور باردة، بل حكايات حية تهمس بالبقاء، والمدينة المتهدمة لم تكن خرابًا، بل مستودعًا لذكريات لم تمت بعد. لم تكن هذه مجرد رؤية، بل حقيقة استقرت في أعماقها.
ارتسمت ابتسامة باهتة على شفتيها، لم تكن سعادة بقدر ما كانت وهج إدراك عميق. لقد فهمت. لم تكن تسير في عالم موحش بحثًا عن النجاة، بل كانت تسير في قلب الموت ذاته، ليس كضحية، بل كجزء من دورته الأبدية. في تلك اللحظة الحاسمة، انبعث نور خافت من أعماقها، نور لم يأتِ من الخارج، بل كان ضوء كيانها هي. كانت فاطمة نفسها يراعة، لم تأتِ لتروي حكايتها فحسب، بل لتكون هي الحكاية، لتكون الضوء الذي يولد من قلب الظلمة ليُعلن أن الحياة، مهما كانت خافتة، لن تنطفئ أبدًا.
ضوؤها الخافت، الذي كان بالكاد يُرى، سطع الآن بقوة أكبر، يتراقص متحديًا ظلام العدم. رفعت بصرها نحو رئتي الموت الهائلتين، لم تعد تشعر بالخوف، بل بنبض مقاومة داخلي. اتجهت بخطوات ثابتة نحو الرجلين، نحو شعلة المعرفة الخافتة تلك، نورها يتقدمها، شاهدًا أن الموت ليس النهاية، بل بداية لضوء لا ينطفئ؛ ضوء يقاوم، يضيء، وينتصر.