في حلكة الليل البهيم، رقصت خيوط الظل على جدران متجر التحف العتيقة. تحت دجى شعرها المنسدل، لمعت عينا ليليا الخجولتان كشمعتين باليتين، بينما شفتاها بلون شفق الغروب لم تنطقا بكلمة. انزلق جسدها كظل بين رفوف المقتنيات، أصابعها الرشيقة تداعب غبار الزمن. لم يكن مجرد ترتيب؛ كانت ليليا تسمع همس كل خدش وتشم رائحة كل حكاية، تستحضر خيال حياة كاملة من كل قطعة، تتشكل وتتلاشى، تاركة خلفها سكونًا عميقًا وفراغًا غامضًا بدا جزءًا منها.
ذات مساء، وبينما يداها تعيدان ترتيب رفوف الكتب، سقط مجلد قديم متهالك بين كفيها. حمل غلافه كلمات: "همسات الأرواح الضائعة". فتحته بحذر؛ قطعة قماش حريرية ملفوفة حول خصلة شعر سوداء حالكة، وشمعة صغيرة برائحة غريبة لم تحددها، محترقة من طرف واحد. أمسكت الخصلة، فاعترتها رجفة خفيفة سرت في ذراعيها، شعور بالمعرفة أيقظ حنينًا خفيًا.
مع حلول كل ليل، كانت ليليا تشعل الشمعة. نورها المتراقص يرسم ظلالًا غريبة على جدران غرفتها. تحدق في خصلة الشعر، تشعر بطاقة باردة تتغلغل من أصابعها إلى أعماقها، مسببة قشعريرة طفيفة. بدأت وجوه غريبة تظهر في أحلامها، تتوهج للحظات ثم تتلاشى. أصوات خافتة تناجيها من بعيد، تتردد كصدى في مساحات النوم. تحول الليل لبوابة كشوفات، ويقظتها انتظرت شيئًا غامضًا. وفي إحدى الليالي المقمرة، بينما الشمعة تذوب وضوؤها يكاد ينطفئ، ظهر نقش على قطعة القماش: "ابحثي عن مرآة الساحرة في بئر الزمن". تجمدت ليليا، تسربت برودة مفاجئة في عروقها، وصدى نداء قديم ملأ عقلها، كأن الطريق مألوف منذ الأزل.
الصباح الباكر وجد ليليا تسير نحو بئر الزمن. الصحراء شاسعة، تتنفس الرمال بحرارة، والرياح تصفع وجهها بحكايات الغبار القاسية. واصلت ليليا سيرها بثبات رغم عواصفها الرملية وسرابها الراقص كوعود خادعة في الأفق. وصلت إلى البئر؛ فجوة عميقة مهجورة، فم أسود يبتلع الماضي. تسلقت بحذر إلى الأسفل، قلبها يخفق بعنف، دقاته تتردد كصدى في الفراغ. مع كل خطوة، همس وعد بالشباب الأبدي في أعماقها. أسفل البئر، وسط الظلام، لمعت مرآة عتيقة، محفورة عليها رموز غامضة تتراقص في الضوء الخافت.
رفعت المرآة بيديها المرتجفتين، شعرت بوزنها التاريخي وثقل الأسرار. وجهت خصلة الشعر والشمعة تجاه السطح العاكس. فجأة، انبعث ضوء مبهر من المرآة، واهتز البئر بعنف، صخوره تتصدع بصوت مدوٍ. لم تعد ليليا ترى وجهها، بل انعكس وجه امرأة أخرى: عيناها الياقوتيتان تلمعان ببريق لم تعرفه، شعرها الدجى ينسدل بسلاسة، وشفتاها الشفقيتان تشعان بالحياة. كانت هي نفسها، نسخة متلألئة خالية من تجاعيد الزمن أو أعباء الذاكرة.
لحظة توقفت فيها الأنفاس، خرج صوت خافت من المرآة، يتردد كصدى من أعماق الزمن، يمزج بين الألفة والغربة: "لقد وجدتِني يا أنا... أنا ليليا التي تركتني في بئر النسيان قبل قرون. مزقني الأسى، فتركتُ قطعة من روحي هنا لتعودي إليّ، لتوقظيني من سباتي، وتمنحيني فرصة أخرى. هذا هو سر شبابي الأبدي، لكنه أيضاً لعنتي الأبدية: كلما تقدمتِ في العمر، عدتُ أنا أصغر، وعندما تنتهين، أبدأ أنا من جديد. لقد حان الوقت لتختفي أنتِ، وتولد أنا."
تصلبت ليليا في مكانها، الهواء حولها يثقل، وتنسحب قواها من جسدها شيئًا فشيئًا. شعرت بكيانها يتحلل كرمال الصحراء التي تذروها الرياح، وروحها تتبخر كضباب الصباح. ذكرياتها تتسرب، أحلامها تنهار، وحياة كاملة تمسح من الوجود أمام عينيها. ندم خافت مر عبرها كشبح عابر، ثم تلاشى بسرعة أمام الإرادة الجارفة للأنا الأخرى التي كانت تتشكل بقوة لا تقاوم. ليليا الشابة في المرآة أغمضت عينيها، ثم فتحتهما بنظرة حياة جديدة، عيون لا تحمل ذكريات أو آلام الماضي. خطت خارجة من البئر، نحو المدينة، حيث كانت تنتظرها دورة جديدة، انعكاس أبدي لشباب لا يفنى، تراقصه الظلال في حلكة الليل المظلم، إلى الأبد، في دورة لا نهاية لها من الوجود والتلاشي.