في قلب الكوت، حيث تتلوى دجلة بشرايينها المتعبة، يقف الهايبر ماركت كصرح معدني باهت. تحت مصابيح فلورسنت خافتة، يتسرب الضوء البارد على رفوف شبه فارغة، تلمع بقايا المنتجات كأصداف مهجورة. لا تعبق المكان رائحة الطازج، بل مزيج من الغبار والرطوبة وصمت بارد يلف الأرجاء. بين الممرات المظلمة، تتراقص الفئران خفيةً، تاركة آثار أقدام صغيرة على الأرضيات المتسخة. فوق رؤوس المتسوقين، تتدلى شبكات العناكب كأعلام بيضاء، تلامس الموصلات الكهربائية العارية التي تومض بتثاؤب خفيف. المبنى كله يئنّ.
كل صباح، تجر قدما يوسف نحو الهايبر ماركت وكأنهما تقتربان من هاوية. يتسارع نبضه كلما لمح سلكًا مكشوفًا أو لمس وصلة كهربائية متهالكة. منذ أن فقد شقيقه الأكبر في حريق مصنع بسبب ماس كهربائي، تملكه رعب بارد. عندما لاحظ السلك العاري خلف رف المنظفات يومض بلون برتقالي للمرة الثالثة هذا الشهر، انقبض قلبه. همس لنفسه بضرورة الإبلاغ، لكن صوت المشرف يتردد في أذنه كصدى الشؤم: "اعتني بعملك فحسب يا يوسف، ولا تجلب المشاكل، فالإدارة العليا لا تحب الخسائر." اليوم، بدت الشرارة أوضح، وعلقت رائحة احتراق خفيفة بأنفه. يتذكر أطفاله الجوعى ووعد المشرف بخصم قاسٍ، فتجفّ الكلمات في حلقه. يرتعش جبينه المتصبب عرقًا، ويصارع داخله.
في الزاوية المقابلة، تمسك أميرة، الأم الشابة، بيد ابنها الصغير آدم. تتلألأ عيناه ببريق الأمل وهو يشير إلى دب أزرق خلف الزجاج. "هذا هو يا ماما، هذا!" يصرخ بفرح بريء. كان هذا الدب وعد والده الوحيد قبل وفاته المفاجئة، وكل قرش تدخره أميرة يقربها خطوة من تحقيقه. مرت أميرة بيوسف للحظة، تلمح شحوب وجهه وقشعريرة الخوف في عينيه، لكن انشغالها بآدم وحلمه الصغير يطغى على أي اهتمام آخر.
تتسلل الأسلاك المتآكلة كالأفاعي في الظلام. سلك عارٍ يتدلى كوريد أسود مهدد من سقف متعب، ينبض بلهيب محتمل. يحاول يوسف بائسًا اللحاق بالمشرف عند قسم الألبان، كلمات التحذير تتنازع في حلقه. يلتفت المشرف ببطء، شبح ابتسامة باهتة على شفتيه، ويلوح بيده في الهواء. "لا داعي للهلع يا يوسف،" يقولها بلامبالاة، "كل شيء تحت السيطرة تمامًا." في ركن قصي، تحت بقعة زيت متسربة تتلألأ كدموع سوداء للمبنى المتهالك، يأمر المشرف أحد العمال بفصل سلك جرس الإنذار. يتردد العامل للحظة، لكن نظرة المشرف الحادة تسكت أي اعتراض. "لا نريد ذعرًا غير مبرر،" يتمتم المشرف، بينما يُسكت الرنين الخافت لجرس الإنذار عمدًا، لتموت أصوات التحذير قبل أن تولد.
لم يكن الليل قد أرخى سدوله بالكامل. الساعة فوق قسم الألعاب تشير إلى الثامنة مساءً. فجأة، تنتفض الشرارة الأولى من السلك المتآكل، شهقةً من رحم الظلام، تلمع وتنطفئ، ثم تعود أقوى، كأنها تتنفس الجو الملتهب. يتصاعد دخان خفيف، يتزايد كثافةً، ورائحة احتراق حادة تلسع الأنوف وتثير السعال الجاف، تثير انتباه بعض المتسوقين، لكنها تضيع في ضوضاء المكان وثرثرة المتسوقين. ثم، يندفع اللهب. لم يكن لهيبًا عاديًا، بل تنينًا من نار أُطلق من قيوده، يلتهم كل ما قابله بلهف متفحم. في لحظة واحدة، ينقطع التيار الكهربائي فجأة، يغرق المكان في ظلام دامس يخترقه لهيب أحمر متوهج. الجدران التي لطالما أحاطت وحمت، تنقلب إلى أفران ملتهبة تلتهم لحمها. ويتهوى الزجاج كدموع حارقة، بينما تتوسل الأجساد النجاة.
تلك الثواني امتدت دهورًا. تختلط صرخات الاستغاثة بقعقعة الانهيار وصوت الزجاج المتناثر. "ماما!" يصرخ آدم الصغير، صرخة ممزوجة بالرعب واليأس، بعد أن تفصله النيران عن أمه. تتوقف أميرة لبرهة، تحدق عيناها في اللهيب، ثم يدفعها غريزة الأمومة الجامحة نحو مصدر الصوت، صارخةً باسمه. يحاول يوسف بائسًا الركض نحو باب الطوارئ. "افتح الباب!" يصرخ في وجه المشرف الذي يحاول الفرار بنفسه. باب المخرج الموصد بإحكام، ومفاتيحه الغارقة في النسيان، يتحول إلى شاهد أبكم. يدفعه المشرف بعيدًا وهو يلهث: "ليس لدي المفتاح! ليس لدي!" تختلط صرخة يوسف بصرخات المشرف الخائف. ينظر يوسف في عيني المشرف، ولا يجد فيهما سوى الخوف الأعمى، خوف أقبح من النار. تمتد أيادٍ نحو المقبض، ثم تسقط بلا حراك في الظلام الدخاني. الدخان الأسود الكثيف يرتفع ليعانق النجوم. تتناثر الأحلام المحطمة كالشظايا، ويتلاشى الأمل كدخان في مهب الريح.
تسرع سيارات الإطفاء والإسعاف إلى المكان، صفاراتها تمزق صمت الليل. الحريق أتم عمله المدمر. الجثث المتفحمة تحكي قصصًا صامتة عن صراع أخير، عن أياد امتدت لطلب النجاة فلم تجد سوى العدم. وفي كومة الرماد، لا تبقى سوى قشور سوداء لأحلام كانت بالأمس تُباع وتُشترى، وبقايا متفحمة لضحكات لم تكتمل. دب أزرق صغير تفحم نصفه، يتلوى بين الأنقاض، شاهدًا صامتًا على براءة أُزهقت. بقيت أصداء أرواح صعدت، وندوب حفرتها تلك الليلة في الذاكرة.
في أعقاب الفاجعة، يسود صمت رهيب، كأن الكوت قد حبست أنفاسها، شهقت ثم تجمدت دهشة ووجعًا. بقايا الهايبر ماركت تظل شاهدًا أبكم على مأساة نُقشت في ذاكرة الأجيال. بين الأنقاض وذكريات لهيب لم ينطفئ، لا يبقى سوى رنين خافت، متقطع، لساعة مدفونة في الرماد. كانت قد توقفت تمامًا عند لحظة الشرارة الأولى، الثامنة وسبع دقائق مساءً، معلنة صمتًا أبديًا أخرس. يوسف، الذي نجا بمعجزة لكن روحه لم تغادر المبنى، يرى تلك الساعة في كوابيسه، رنينها يطارد نومه، وهمس الريح بين الشظايا لا ينقطع: "لقد تُرِكوا، لقد نُسوا."