الرُّكامُ، ذلك المعمارُ الهَشُّ من الإسمنتِ المَثلومِ والحِجارةِ التي تَوَرَّمَتْ بالبُؤسِ، هو مَربِطُ خُيولِ صَبوَتِهم.أطفالٍ، أزهارٌ ذَابلةٌ في حَقلِ الخَرابِ، يَنقُشون على الفَناءِ لُعبةَ البقاء. تَوَسَّطَ "أحمدُ"، نَزيفُ الشُّجاعةِ في عُروقِهم، مَتنَ التَّلِّ الرَّماديّ. شَرعوا يَنسِجونَهُ هَرَماً بشرياً؛ أكتافٌ حَبلى بالهَوانِ تَستَدعي أكتافاً، وجُثثٌ صَغيرةٌ تَتَسامى فوقَ جُثثٍ، في مَعمَدٍ مُرتَجفٍ يَبتَني نَصْرَهُ الأكروباتيَّ من خُواءِ التَّدميرِ.
اعتَلى أحمدُ القِمَّةَ. شَفَتاهُ انشَقَّتا عن بَسمةِ النَّجاةِ المَؤجَّلةِ. ذِراعاهُ انشَرَحَتا، جَناحا نَسرٍ من قُماشٍ بالٍ، مُعلِناً نَشيدَ العُلوِّ في حَضرَةِ الانحِطاطِ. كان المشهدُ كلُّه تَمظهُراً مُتألِّقاً لـ "الإرادةِ" على مَسلَخِ "الحِقدِ". في البَراحِ المُتَخَلّقِ من الخَرابِ، كان الصِّبيانُ الآخَرون يَخطِفون الأنفاسَ بين ثنايا الرُّكامِ، كأنّهم أطيافُ فَرَحٍ في قَداسَةِ الحِدادِ.
وفَجأةً، انسَحَبَت نَشوةُ الظَّفَرِ من ثَغرِ أحمدَ، كَأنَّ القَلبَ نَزَفَ ضَحكتَهُ. لم يكن الاهتزازُ ناجِماً عن اختِلالِ الهَرَمِ المادّيّ، وإنّما عن ارتِعاشِ الهَرَمِ الباطِنيّ. أشارَ بِزَنَدٍ نَحيلٍ نَحو الفَضاءِ المُتَّسِعِ الذي ما عادَ قُبَّةَ سَلامٍ، غَدا فَمَ رَصاصٍ مَفتوحاً. لم يَبحَث عن صَرخةٍ؛ أطلَقَ هَمساً، كَخَفقةِ جَناحِ فَراشةٍ تُحتَضَرُ: "الظِّلُّ..."
في الارتِدادِ اللَّحظيِّ، اغتِيلَ الضَّجيجُ. لم يَكُن الصَّوتُ القادِمُ هو نَعيقَ المَدافِعِ، إنّما حَشرَجةَ الفَرَحِ وهُو يُسحَبُ من رِئاتِهِم. حين أفرَغَت فِرَقُ الإغاثةِ قَناديلَ بُؤسِها فوق المَشهدِ، عَثَروا على الأطفالٍ، نُصُبٍ مَنحوتةٍ من الجَفافِ. سِتّةٌ يَحمِلونَ سابِعاً. لم يَجِدوا أثرَ شَظيّةٍ واحِدةٍ؛ لم تَفتِك بِهِم سِياطُ النّارِ. لقد تَجمَّدَت عُروقُ الدِّماءِ في أجسادِهِم من صَريرِ الرُّعبِ الخَفيِّ.
تَوَقَّفَ مُحَرِّكُ النَّبضِ في صَدرِ أحمدَ قَبلَ أن يَهبِطَ الصَّوتُ، وتَتابَعت انطِفاءاتُ القُلوبِ في رِفاقِهِ، كَأنَّهم عُقدَةٌ وِجدانيّةٌ مَربوطةٌ بِخَيطٍ واحِدٍ من الهَلَعِ. لم يَبقَ على مَوقِعِ النَّصرِ المُتَوَّهمِ سِوى حَجرٍ إسمَنتِيٍّ مُستَطيلٍ، يَبدو كَشاهِدِ قَبرٍ مُبَكِّرٍ. كان قَد خُطَّ عليهِ قَديماً، بِحِبرِ الأملِ السَّاذجِ: "هنا سَتُصَبُّ الحياةُ". لَكِنَّ الظِّلَّ الطّائِرَ، كَحاجِبِ عَزرائيلَ، سَحَقَ كلمةَ "الحياةِ"، وبَقِيَ: "هنا سَتُصَبُّ...". لَم يُصَبَّ شيءٌ سِوى الهَرَمِ العَظيمِ من الصَّمتِ الأبديِّ.
كاتب وقاص ليبي