تجاعيد وجهه المثقل كانت بمثابة خرائط لعمر أُنهك. كل ثنية حفرتها يد الزمان بقسوة لا تلين، وكل غور فيها حمل في طياته أصداء صرخات مكتومة وضحكات مبتورة. قبض بكفَّيه اليابستين على وجهه، كمن يستر شيئًا عظيمًا، أو يجمع شتات روح أضناها العبث. عيناه اختبأتا خلف تلال أنامله، ربما خشية أن تفضحا ما استقر فيهما من رماد ووهن، أو كي لا تلمحا قسوة العالم الجديد.
في زاوية حجرته المعتمة، حيث تتراكم ظلال الماضي، اعتاد سالم أن يجلس هكذا، كتمثال صُمت ليحكي ألف قصة بلا حروف. كانت الأيام تتسرب من بين أصابعه كحبات رمل، تحمل بقايا الذكريات التي كانت يومًا زاده ووحيده. أبناؤه هجروه، وبناته انشغلن بحياتهن، وبقيت فاطمة، زوجته الراحلة، شبحًا يراقص وحدته كل مساء.
في تلك اللحظة، ارتجفت أنامله. لم يكن ارتجاف شيخوخة، بل نفضة يقظة مفاجئة، كأنما وعي قديم يستيقظ من سباته. تناهى إلى مسامعه صوت خفيض كفحيح الريح العابرة: "ماذا تبحث يا سالم؟". اعتدل سالم ببطء، كأنما يجرّ خلفه أطنانًا من تعب السنين. رفع كفَّيه عن وجهه، فانكشفت عيناه المتعبتان، لكن فيهما بريق لم تطفئه السنون. لم يكن الصوت من فاطمة، بل صوته هو، ينبعث من أعماق روح قديمة جدًا.
نهض سالم، خطواته ثقيلة لكن حازمة. اتجه نحو المرآة العتيقة على الجدار، التي عكست صورة باهتة لوجهه المنحوت بالشقاء. ثم، وفي لحظة أدهشته قبل غيره، رفع يده المرتعشة، وبدأ يرسم على سطح المرآة الضبابي بضعف، ثم بقوة أكبر. خطوط متعرجة، تلال صغيرة، وديان عميقة... كانت يداه تنحتان، لا على لوح صخر، بل على سطح وهمي يترنح بين الذاكرة والواقع.
حين انتهى، تنحى قليلًا، وتأمل ما صنعت يداه. كانت قد رسمت صورة لوجه، الوجه الذي يحمل ذات التجاعيد والخطوط التي على وجهه هو، لكنه بدا وكأنه يحمل نظرة حبيب غائب.
في زاوية المرآة، حيث انعكس ضوء قنديل خافت، ظهرت بوضوح، وسط تفاصيل الوجه التي رسمها، كلمة واحدة محفورة بعناية، كأنها وشم أبدي: "فاطمة".
نظر سالم إلى الرسم، ثم إلى انعكاس وجهه، ثم عاد إلى الرسم مرة أخرى. ابتسم ابتسامة باهتة، لم تبلغ عينيه المتعبتين، لكنها وصلت إلى أعماق روحه التي بدت أنها وجدت سلامها أخيرًا. ثم، وبلا مقدمات، سقط سالم على الأرض، جسد متهالك استسلم لآخر مرة.
في صباح اليوم التالي، حين عثرت عليه الجارة، كان سالم قد فارق الحياة. لكن المفارقة الصادمة كانت كامنة في المرآة: فالرسم الذي خلّده سالم على سطحها، لم يكن لوجهه، ولا لوجه زوجته، بل كان نسخة طبق الأصل من الصورة التي رُفعت له قبل أيام قليلة، صورة نُشرت في الصحيفة المحلية تحت عنوان عريض: "آخر الأحياء من جيل المقاومة يغادر". سالم، الذي ظن أنه يرسم وجه من أحب، كان في الواقع يرسم النهاية؛ نهاية صورة، ونهاية حياته، في نقش أخير خلد فيه ذكرى من لم يستطع نسيانهم، ولو على حساب نسيان نفسه.