في سراديب كهف الصقيع السحيقة، حيث يتجمد الصمت المطبق، وتتراقص أشباح اليأس الشاحبة، كانت روحه تتلاشى كوشم قديم؛ تُسحب منه الحياة قطرة قطرة، وتُسفك من أوردته كدم بارد لا يرتعش. هنا، لا حلم يتسلل، ولا فرح يصدح، ولا دفء يحتضن جسدًا بات هيكلًا، عاريًا من وهج العافية، مختنقًا بزمهرير الأنفاس، ولظى يعتصر الروح. تآكلت الحدود بين الزفير الأخير وصمت الأبدية، كأنه رقم منسيّ في سجل الزوال، لا يصدح إلا حفيف العدم المرعب في أذنه. طقطقة عظامه كجسر ينهار، وقشعريرة روحه المتوثبة على جسده الواهن، حجبت كل شيء إلا هذا الخواء المدلهم الذي ابتلعه.
أمام عينه تراقصت صور الأمس، كأطياف ضبابية لعالم مضى. سنوات العمر توالت كفصول شتاء قاسية، وكلما تقدمت، زاد شعوره بالغربة عن خمائل أفراحهم. ابنته. آه يا ابنتي! أعياد تمر، وضحكات تضيع في مسافات جليدية بيننا، تاركة قلبي مثقوبًا. هذا العيد الثامن عشر لميلادكِ، ولن تصافحني دفوف احتفالاتهم، ولن يتردد صدى ضحكاتهم في أذنيّ. فليحتضنني الصقيع إذن، فليستوعبني الفناء بلا نهاية! أطرافي لا تجيب نداء الحياة، جسدي لا يرتعش حتى من وطأة الوجع الذي نخر عظامي. تراقص الفرح مع الحزن في داخله رقصة جنونية؛ اختلطت الدموع الحارة بابتسامة خائنة باردة، كخنجر مسموم يغرس في الصميم.
وفجأة، في عمق لُجَّة العدم الزاحف، صدح هاتفه. لحن وضاء اخترق دياجير الظلمة الكثيفة، وشق عباب الصقيع كشعاع شمس شتائه العنيد، وكأنه قيثارة نور تعزف سيمفونية الأمل. ابنته. صوتها! صوتها الرقيق، المفعم بالحياة، مزق دياجير الجليد الذي كاد يجمد قلبي، مبشرة بـ"علي" يتلألأ كنجم وهاج في سماء عتمته. ارتعش وعيه للحظة، تذكر ميلادها السادس عشر، ثم أدرك أنها تجاوزته، وأن هذا عيد ميلادها الثامن عشر. لكن صوتها الدافئ أعاده إلى الواقع، إلى رغبة الحياة.
"آه يا أبي!"
تكسرت الحواجز الزجاجية للعدم، وتهاوت سدود اليأس. وكأن صوتها قد أعادني إلى ذاتي، تساءلت: كيف لي أن أستسلم وهذا الصوت النوراني يبعث فيّ الحياة من جديد؟ أعدكِ يا ابنتي، أعدكِ أننا سنرتوي من بحر الغبطة الذي لا ينضب، سنقيم الملاحم من الأفراح التي تزلزل صمت القدر، وتكسر قيوده. هذا الداء اللعين، وإن أقصاني عنكم جسدًا، لن يُخمد عزيمتي المتقدة كجمرة متأججة في قلب الليل. سأعود قريبًا، وسيكون هذا اليوم عيدًا يُنقش في سجلات الذاكرة كفجر مشرق لحياتنا. سأعود، ولو حبوًا على أنقاض جسدي، لأرى ابتسامتكِ التي تضيء العالم، ولأعانق روحكِ النقية، ولأكون الشاهد على كل لحظة فرح في حياتكِ. ففي كل خلية من جسدي المنهك، يتردد صدى وعدي لكِ، وكأنني أقسم على الحياة ذاتها أنني لن أدع هذا الكهف الجليدي يبتلعه.





































