في مدينة تلفظ أنفاسها الأخيرة تحت وطأة حصار لا يرحم، حيث الجدران تتآكل كأجساد أرهقها الجوع، والأزقة تئن تحت وطأة الخوف المطبق، كان يوسف يختبئ خلف رغيف ضخم، يابس كقلب جلاد قاس. لم يكن هذا الرغيف طعامًا يُرتجى، بل كان ساتراً واهيًا من وحش محدق. أسلاك شائكة غائرة في قشرته الصلبة، تحوله إلى كرة معذبة، تبتلع ببطء ما تبقى من أمل باهت.
عينا يوسف الصغيرتان كانتا نافذتين على هاوية لا قاع لها. تريان وحشية كامنة في صمت الخراب، وفي بريق الأسلحة البعيدة الذي ينعكس على الجدران المنهارة. كان الرغيف سجنه ورفيقه الوحيد في هذا العالم المتصدع. كل شظية كانت تخترق الجدار القريب، تحدث شرخًا جديدًا في قلب يوسف، وفي قشرة الرغيف اليابسة التي أصبحت مرآة لآلامه.
همس يوسف، صوته خافت كحفيف أجنحة مكسورة: "أمي، هل خبز الحرب طعمه مر كالدمع؟" لم يسمع جوابًا سوى صدى أنفاسه المتعبة التائهة في الفراغ.
فجأة، اهتز الرغيف بقوة لم تكن لقذيفة، بل كانت يد صغيرة أخرى، ملطخة بالغبار، تمتد نحوه من الجهة المقابلة. يد أصغر من يده، تحمل قطعة صغيرة من فاكهة ذابلة، كأنها آخر ما تبقى من عالم جميل. نظر يوسف بدهشة؛ كان علي، الطفل الذي فقد عائلته قبل أيام، وبقي وحيدًا يواجه مصيره.
تقاسما الفاكهة اليابسة بصمت مقدس، صمت يختزل كل مآسي الحرب وكرم البشرية في آن واحد. بينما كانا ينهشان الفاكهة المريرة، بدأ الرغيف الضخم يهتز بعنف أكبر. بدأت الأسلاك الشائكة تنغرز بعمق في داخله، وكأن وحشًا خفيًا ينمو ويتمزق من الداخل، مستعدًا للانقضاض.
ارتعبا. لم يعد الرغيف ساتراً؛ لقد كان فقاعة زمنية واهمة أوشكت على الانفجار. وفجأة، تمزق الرغيف المعذب، لا بدوي مزلزل يمزق الصمت، بل بهدوء غريب يخفي وراءه فزعًا أعظم. تحولت الأسلاك الشائكة إلى سيقان قمح ذهبية لامعة، وتفكك الرغيف اليابس إلى آلاف الحبوب الذهبية المتلألئة، انتشرت في المكان كبذور أمل مفاجئ زرعت في قلب الخراب.
وجد يوسف وعلي نفسيهما وسط حقل صغير من القمح الذهبي، ينبت من قلب الدمار الذي كان يحيط بهما. لكن المفارقة الصادمة كانت في تلك الحبوب الذهبية البراقة. لم تكن حبات قمح عادية تبشر بالخير، بل كانت "أسنان" ذهبية صغيرة، تلمع ببريق مرعب لا يوحي إلا بالمخاطر.
في تلك اللحظة، اخترق سمع الصبية صوت بعيد، لم يكن صوت قصف اعتاداه، بل صوت ضحكات مكتومة تقترب منهم ببطء مرعب. ومن بين الأنقاض المبعثرة، ظهرت وجوه شاحبة هزيلة، عيون جائعة تحدق فيهما بنظرات لم يفهمها الصغيران. كانت الوجوه تبتسم ابتسامة واسعة جدًا، تكشف عن أفواه خالية تمامًا من الأسنان، إلا من اللثة المكشوفة.
أدرك يوسف وعلي، في لحظة رعب مفاجئة كصاعقة نزلت على رؤوسهما، أن الرغيف لم يكن بذرة حياة، بل كان "فم" وحش جائع ابتلع كل شيء. وتلك الحبوب الذهبية لم تكن سوى أسنانه التي سقطت بعد أن شبع أخيرًا من وليمة لم يرها أحد. وحقل القمح الذهبي الذي ظهرا فيه لم يكن بشارة خير، بل كان آثار وليمة دموية انتهت للتو. أما الضحكات القادمة فلم تكن ضحكات إنقاذ، بل كانت ضحكات جوع جديد، تتجه نحو آخر من تبقى في هذه المدينة المكلومة.