تتشبث القرية بالجبل كعش نسرٍ عتيق، منحوتةٌ في صخوره الوعرة، تتحدى رياحه العاتية وتعانقها السحب. من شرفات هذا العش الشاهق، يتقلص العالم أمام الجد أحمد إلى خطوط ضبابية في الوادي السحيق. يتسع قلبه ليحتضن مصطفى، حفيده النائم على ظهره، كنزًا ثمينًا بين يديه المرتعشتين من برد الصباح.
كل يوم جسرٌ يُبنى؛ لا من خشب أو حجر، بل من صبرٍ وإيمان. جسرٌ يمرّ به أحمد الآن، لوحٌ بالٍ يتأرجح فوق هوةٍ عميقة. لكن خطاه ثابتة لا تهتز؛ فمصطفى ينام على ظهره، أنفاسه الدافئة نبضه الحي، تهمس له بوعود المستقبل.
في الأعلى، حيث يتلاصق البيت بالجرف، تنتظر زينب، زوجة أحمد. تقف عند الموقد الذي يتصاعد منه دخان أبيض كشيب الأيام، يحمل عبق حطب السنديان. عيناها، وقد صقلتهما قسوة السنوات، لا تبرحان الجسر، تراقبان المسير بقلقٍ خفيّ. قلبها يرتل دعاءً صامتاً خفيفاً كهمس الريح. تتصاعد رائحة الحساء المغلي، تمتزج بعبق الحطب وشوق اللقاء.
كل حبة أرزٍ في القدر تحمل عرق الجبين، وكل قطرة ماءٍ تروي كفاح الأجيال. لكن عيني أحمد، رغم الشقاء، تشعان بنورٍ عميق؛ حبٍ لا ينضب لزينب ودفء أبدي لمصطفى. هذا النور يضيء صمودهما الأسطوري. يذكره بزينب وهي تقف عند الجسر نفسه في ريعان شبابهما، تنتظره بنفس الشغف، حاملةً حلمًا بالبقاء والعمران، حلمٌ تحول بصبرهما إلى واقعٍ يكتنفه الجبل وتظلله الغيوم.
يقترب أحمد، تتثاقل خطاه قليلاً، لا من التعب بل من ثقل اللحظة المقدسة. ابتسامة زينب تضيء وجهها المتعب بوهجٍ، فتنير دربه. البخار يتصاعد من القدر كأنه أرواح الأجداد المباركة تحيط بهم. يصل إلى نهاية الجسر، يضع قطعة اللحم بلطف، وينزل مصطفى بحنان. يستيقظ الصغير، يفرك عينيه بنعاس، ثم تقع عيناه على جدته، فتتفتح ابتسامة صافية على وجهه، مشرقة كشمسٍ أشرقت بعد ليلٍ طويل.
تأخذ زينب قطعة اللحم وتضيفها إلى القدر، لتغذي أجسادهم وأرواحهم، بينما يغمر أحمد مصطفى في حضنٍ دافئ. بين أيديهم المتجعدة، التي حفرت فيها الحياة قصصاً، يتشكل مستقبلٌ بسيط وعميق. هنا، في قلب الجبل الصامت، تكمن القوة الحقيقية في الصمود الأبي والحب الأبدي، وفي تلك اللحظات اليومية التي تنسج خيوط الحياة. الجسر ليس مجرد لوحٍ بالٍ، بل هو رمزٌ لصلابة الروح والإرث. قصة حب وحياة تستمر وتتجدد، فوق جسر الأيام.