الإهداء: إلى روح ابني "فراس".
كان فناء بيتنا في سرت يتنفس، لا بالهواء، بل بعبق التين والزيتون المعمّر، ورائحة خبز الطابون الدافئة التي تملأ الصباح. شجرة الطلح العتيقة، بظلالها المتراقصة، احتضنت أماننا الهش. تلك الشجرة يا طفلي لم تكن خشبًا؛ بل ذاكرة أجيال ممتدة، حُفرت على جذعها قصيدة حب لأمك قبل ميلادك بزمن سحيق. كانت جدتك مبروكة، بجسدها النحيل كغصن زيتون، روح الفناء. كل صباح، كانت تضع مزهريتها الفخارية على النافذة، تملؤها بزهور برية قطفتها من التل القريب. لم تزرع فيها الزهور فحسب، بل حكايات الأمس ووعود الغد، وتفوح منها رائحة الأرض المبللة بماء الفجر. كان صوت هديل الحمام يملأ الفناء، والشمس تتسلل بين الأوراق لتلامس الأرض بلطف. بيتنا يا ولدي لم يكن مجرد جدران؛ كان واحة للروح، وملاذًا مقدسًا ينبض بالسكينة.
لكن تلك الروح اهتزت ليلة لن أغفرها للزمن أبدًا. انقض الظلام علينا لا كطيف عابر، بل كغضب أصم انفجر من أعماق الجحيم. بدأت الأرض تتلوى تحت أقدامنا. سمعنا صرير الجدران المتصدعة كأضراس تتخلخل في فم شيخ. ارتفعت الجدة مبروكة عن سريرها مذعورة، وقلبها يخفق كعصفور ذُبح للتو. لم يكن زلزالًا. كان زئير وحوش معدنية يمزق السماء، ورائحة البارود الحادة تخنق الأنفاس. سمعت صوت تحطم مدوٍ، صوت تحطم قلب. سقطت مزهريتك يا طفلي، تلك التي حملت عبق الأمل الهش، فتحطمت على بلاط الفناء. تحطمت معها أحلامنا إلى أشلاء متناثرة، ومرارة معدنية ملأت فمي.
لم يكن القصف الجوي سوى البداية لوحشية أعمق. تحت جنح الظلام الدامس الذي ابتلع النجوم وغطى العار، تسللت كلابهم المدججة بالحديد والكراهية. سمعت أنفاسها الحارقة، ونباحها الذي مزق صمت الليل، ينخر في عظامنا النخرة. دوت أقدامهم الثقيلة في شوارعنا. اقتحموا البيوت بضراوة، لم يفرقوا بين مساجد خاشعة ومساكن آمنة. رأيت بأم عيني كيف اجتثوا شجرة الطلح من جذورها بلا رحمة، وكأنهم يقتلعون تاريخنا من أصوله، يمحون أثر أجيال كاملة من ذاكرة الأرض. كان كل همهم أن يعيثوا فسادًا في أرضنا الطاهرة: ليبيا!
في تلك اللحظة، رفعت عيني إليك يا صغيري، وقلت بصوت يكاد يختنق: "يا فراس، سجل! سجل بمداد الدم النقي الذي لم تدنسه خيانة! لتكن شهادتنا الأبدية!" نحن من طينة الأرض الصلبة، كصخور الجبال الشاهقة التي لا تهتز، ودماؤنا أنقى من الثلج البكر، طاهرة كحليب أمهاتنا. أمك، وجدتاك، وجدك، وعماتك وخالاتك وأخوالك وعمك وأبناء عمك، حتى ابن الجيران الذي وُلد بعدك بأيام، كانوا ينامون بهدوء وسلام، كأزهار تنتظر فجرًا وادعًا. لكن صواريخهم شقت أحشاء السماء بوحشية، وقنابلهم أفرغت صدور الأرض رعبًا، وطائراتهم قصفت أجنحة الفجر، وبوارجهم روعت أمواج البحر. مرت تدك رؤوسنا دكًا مروعًا. فكيف لي أن أصف لك مجدك يا من وهبك الله هذا المقام الرفيع! مجدك الذي يُخجل النجوم بضيائه، وعزتك التي لا تطاولها الرماح، وعنفوانك الذي يطوي عروش الطغاة كطي السجل، وبطولاتك التي تفوق بأسها ليلة غزوهم القاحلة. سيخبرونك إن كبرت عن حرب البسوس، وكيف خاضها "كليب" ضد أبناء عمومته، وكيف أبادت "المهلهل" "بني بكر". لكن العرب يا ولدي، ومنذ ذلك التاريخ اللعين، يعيدون إنتاج دراما البسوس المشؤومة بلا نهاية. هنا يا قرة العين، لم يسرقوا الأمان فحسب، بل سرقوا ابتسامتك البريئة التي كانت تضيء حياتنا، سرقوا أحلامك التي كانت تحلق في سماء الطفولة الصافية. سرقوا أطفالنا، ونساءنا، وشيوخنا، وكهولنا. لكننا، كما كان أجدادنا الكرام، نقارع العدو حتى الرمق الأخير، حتى آخر نفس، حتى آخر قطرة دم.
وبينما كانت تلك الكلمات تتقاطع في ذهني كشفرات، وتتقلب في قلبي جروحًا لا تلتئم، أزحت الرداء عن جسدك الصغير، الذي حملته بصمت مطبق طوال هذا الحديث المرير. كان وجهك أبيض كالثلج النقي، وعيناك مفتوحتين على وسعهما، تحدقان في الفراغ المطلق. لم تحمل تلك المزهرية التي تحطمت زهورًا قط؛ بل حملت عبء صمتك الأبدي، وجميع أحلامنا المكسورة المتناثرة. في قلبك الصغير، حُفرت كل تلك الكلمات، لا بمداد يمحوه الزمن، بل بندوب أزلية لا تزول.
حينها، رفعت رأسي. وجدت علي، أخي الأصغر، يحفر بقطعة حجر حادة على جذع شجرة الطلح الجديدة التي زرعناها اليوم، نفس القصيدة التي كتبتها لأمك. في عيني فراس، لم ألمح يأسًا واحدًا، بل صرخة صامتة تختبئ في العمق في وجه الزمن الذي لا يتعلم. كان تاريخًا يُعاد كتابته بدم جديد، على جذع شجرة تشهد على أننا لن ننسى أبدًا، ولن نستسلم، وأن أملنا يتجدد مع كل جذر يضرب في تراب هذه الأرض الطاهرة.