"ليس هذا بيتنا، يا ولدي." همستُ، وقبضة يدي الواهنة تلتف حول كفه النحيل. عيناي تتوهان في غبار الذكريات، تبحثان عن شبح دفتر ممزق. هنا، حيث كان الصخب يضج، تسلل اللامُسمى. لم يكن قصفهم دويًا، بل رعشة أرض ابتلعت الأشجار، فانتحبت شجرة الطلح التي نقشتُ على جذعها قصيدة عشق لأمك. جُذرت، تاركة ندبة غائرة في تراب البيت وروح أبيك.
قبل الكارثة، نبض البيت بالبراءة. أتذكر جدتك تملأ الزوايا بضحكات رقراقة، تروي حكايات زمن لم يلوثه الشر. لم توقظنا سوى أذان الفجر العذب. لكن فجأة اهتزت الأرض، ولم يكن أذانًا. ارتجفت النوافذ بعنف، ثم دويٌ خافتٌ ابتلع تحطم مزهرية جدتك الفخارية. انهالت المدافع من سماء وبحر، فروّعت أفقنا الأزرق ومحيطنا. تسللت قوافلهم في ليل بهيم، تنهش الظلام بنباحها، لاهثة نحو الخراب. داهموا البيوت بشراسة، لم يميزوا قدسية محراب عن حرمة منزل؛ غايتهم كانت نشر بذور العدم.
"اكتب، يا طفلي. وليكن أخوك أحمد سندك. سجّل: نحن سلالة تراب صلب، ودماؤنا أنقى من ثلج، وأطهر من حليب الأمهات." تمتمتُ، وعينا طفلي تتيهان في فراغ. لم يدر بخلد الغارقين في غفوة أحلامهم أن السماء ستمطر نارًا تلتهم الأرواح والتاريخ. اجتاحت آلتهم الحربية سماءنا، تدكّ الرؤوس دكًا بلا رحمة.
كيف لي أن أخط تاريخك، يا هبة السماء؟ كيف أصوغ مجدك وعنفوانك، وبطولاتك، وهي أسمى من أن يحيط بها وصف ليلة اجتياحهم! سيحدثونك إذا كبرت عن حروب الأجداد، وكيف ينسجون دراما حرب البسوس. لكن غدرهم لم يسرق بسمتك وأحلامك فحسب، بل امتد ليعبث بصبوات طفولتنا، ويكبل عزائم شبابنا، ويمس هيبة شيوخنا، ويوّهن سواعد رجالنا ونسائنا. ورغم ذلك، ظللنا، كالأماجد، نصارع العدو حتى آخر رمق.
"سطّر، يا صغيري!" همستُ، كأن الكلمات تنساب من أعماق روحي، تحمل أماني أمة لن تنسى الشهداء. في كل قطرة دم ألف ميلاد، وفي كل حرة جيل لا يلين، سيفه لا يغمد حتى يندحر الغاشم. باقون هنا، كجذور هذه الأرض، لن تقتلعنا ريح. اجمع أشلاء دفترك الذي مزقته شظايا حقدهم، ليصبح نبضًا يروي للأجيال قصتنا، كيف قارعنا أشباه الرجال.
تقدمتُ نحوه، وجهي يدنو، ويدي تلامس كفه. ابتسامة خافتة ارتسمت على شفتيه، لكن عينيه ظلتا تحدّقان في فراغ، لا تلتقيان بعينيّ. رفعتُ الدفتر الممزق أمامه، أشرتُ إلى ما بقي من سطوره الباهتة، وهمستُ بتحدٍ، بصوت كاد يتلاشى: "اكتب... ثم اكتب..."
ظل صامتًا. يداه بقيتا بلا حراك، كطيور مجروحة. وحين حاولتُ وضع القلم بين أصابعه، انزلقت يده خائرةً، وارتطمت أصابعه المشوهة بفعل الشظايا بالصفحات الخاوية. هنا، انقضّت عاصفة الرماد على روحي، وأدركتُ المفارقة المروعة: لم يكن يستطيع الإمساك بالقلم، ولا حتى رؤية الحروف. لقد فقد بصره ويده اليمنى في تلك الليلة اللعينة. لم يتبق منه سوى همساتي التي يرددها، وروح أبية تتشبث بخيوط واهية من الأمل في بقايا طفل.