لم تكن الريح عند آدم مجرد هواء عابر. كانت وسواسًا أبديًا، شبحًا يهمس بوجوده من أعماق أرشيف لا يُرى. منذ أن فقد أخته الصغرى لينا، التي التهم المرضُ رئتيها ورحلت إلى تراب بارد لم يفهم آدم سر برودته، تعلّق بهمس الريح. هل كانت لينا هناك؟ هل تحمل الريح أصداء الراحلين؟
أربعون عامًا مضت كأنها نسمة، وهو يطارد "صدى العدم"، شبحًا من الذكريات المفقودة. قادته هذه المطاردة، التي أضنت روحه وأنهكت جسده، إلى قفار مترامية الأطراف؛ حيث تقف شجرة التبلدي الوحيدة، صومعة شامخة عتيقة، تتراقص أغصانها مع كل نسمة ريح. كانت الشجرة شاهدًا صامتًا يحمل أسرار قرون من النسيان.
جلس آدم بين الأجهزة، وجهه جامدٌ كالصخر، وعيناه لا ترفان وهما تراقبان الشاشات. يداه، رغم تقدم السن، كانتا تعملان بدقة متناهية على التوصيلات والترددات. تبادل فريقه نظرات الشك. همس أحدهم، خالد على الأرجح: "آدم، لقد أمضينا ثلاثة أشهر في هذا الفراغ. لا شيء هنا." تثاقلت الأيام، وبدت رمال الصحراء وكأنها تبتلع آخر بصيص أمل. لكن آدم لم يرفع رأسه. يده لم تتوقف عن مراجعة التوصيلات، وعيناه ثابتتان على الشاشات، كما لو أن الشجرة ذاتها كانت تومئ له بأسرارها الخفية.
ذات مساء، مع وهج قرمزي يودع الأفق، مرت الريح هادئة، تتسلل بخفة عبر الأغصان العارية. فجأة، ارتجفت مؤشرات الشاشات، واخترقت نبضة خافتة سكون الفراغ. لم تكن تنبعث من جذع الشجرة العتيقة، بل من الفضاء الذي خلفته الريح في أعقابها. رفع الجميع رؤوسهم في دهشة، وصمت مطبق لم يقطعه سوى رنين الأجهزة.
عشرة أيام أخرى قضاها آدم كشبح؛ ينام واقفًا، يتنفس الأرق، وعيناه لا تفارقان الشاشات. أصابعه، التي كانت ترتعش من الإجهاد، تتحرك بدقة شبه عمياء، تعزل الصوت، تنقيه من وشوشة الصحراء التي كانت تتسلل إلى الأذن. ثم، وكأنه صوت قادم من صدع في الزمن، اخترق الفراغ همسٌ. ليس أنينًا، بل همسٌ واعٍ، يتكرر بلا انقطاع، كأنه يتردد في أذنه منذ الأزل:
"لم أكن أحمل شيئًا... كنتُ أنا، كل ما حُمِل."
تجمدت عروقه. سقط آدم على ركبتيه، والأرض تدور به. الريح لم تكن كيانًا يحمل الذكريات، بل كانت الذكريات ذاتها. الوجود، الزمن، كل لحظة عاشتها الأرض، كل ضحكة، كل دمعة، كل همسة... لم تمت قط. إنها تتدفق، وتتجسد، وتتنفس في كل نسمة هواء تمر عبر الزمان. لينا... كانت هنا. كانت تهمس باسمه.
ارتعش آدم. مد يده ليمسك الريح. لم تعد مجرد هواء بارد، بل شعورًا عميقًا اخترق كفه. لم تحمل شيئًا سوى صدى ضحكته الطفولية البعيدة، ورائحة تراب قبر أمه العالقة بذاكرته كوشم مقيم، وآخر كلمة همست بها حبيبته التي تلاشت كالغبار مع مرور السنين. لم تكن هذه مجرد ذكريات، بل أجزاء منه، ومن كل البشر الذين عاشوا قبله.