برود مقيت يبيع الدماء. ارواح تسوق كسلعة زهيدة في سوق نخاسة جديدة. في قلب شارع الكرامة، حيث الشمس جمرة حمراء تتهاوى خلف أفق ملبد بالدخان، جلست ليلى العشرينية. جدران غرفتها تحمل وشوم قصف سابق. جسدها النحيل يرتجف من صدى انفجار بعيد. تمسكت بدمية قماشية، آخر ما تبقى من اختها الصغيرة "مريم"، التي ابتلعتها الأنقاض. عيناها، لؤلؤتان اغرقتهما بحيرتا اسى، تعكسان الدمار العاري. اي وحشية اجبرت عيناها على استساغتها، وقلبها على تقبل هذا الفجور؟
اندفعت نحو النافذة المحطمة. لم تعد تخشى شيئا. الشوارع تضج بـاشباح مقنعة، تلوك ترابها بخناجرها المسمومة، وتخنق الانفاس. انين الجيران يمزق الصمت. غبار المنازل المنهارة يتصاعد كضباب ارواح تائهة. تذكرت وجه اخيها الصغير، يوسف. كيف كان يبتسم وهو يلاحق فراشة في حديقة منزلهم التي باتت اليوم كومة من الركام. غصة مرة عصرت حلقها.
اهتزت الارض بعنف، ليس مجرد انفجار بعيد. صفير يقترب، يزداد حدة، ثم دوي هائل شق السكون. انطفأ الضوء؛ ابتلع الظلام الارجاء. ابتلعتها الارض، ثم وميض ابيض مبهر، موجة لاهبة من الغبار والركام اجتاحتها. فتحت عينيها بصعوبة، لتجد نفسها تحت جزء من سقف الغرفة المنهار. روحها تكاد تتشقق الما، لكن الالم الحقيقي كان في صرخة مدوية من تحت الانقاض القريبة، صرخة تشبه تماما صرخة "مريم" قبل شهر. لم تكن صرخة، بل كانت غزة كلها تصرخ. كل رصاصة تطلق، وكل قذيفة تسقط، غصة جديدة في حلق غزة، التي باتت تختنق، تتلظى بنيران داخلية وخارجية. كل نفس يخرج منها يحمل وجعا مريرا، يزرع اليأس في قلبها المنكوب. بيوتهم ركام، اسرهم شتات، وروح يوسف البريئة ازهقت بلا ثمن.
بصعوبة بالغة، حاولت ان تتحرك. ساقها اليسرى تؤلمها بشدة. زحفت نحو مصدر الصوت، الانين الخافت من تحت ركام منزل جيرانها. لم تعد ترى بوضوح، لكنها دفعت الاحجار والطوب بيديها العاريتين، رغم الالم. المحت يدا صغيرة تطل من تحت الانقاض، يد طفل. لم تفكر للحظة، فقط دافع البقاء والرغبة في انقاذ ما يمكن انقاذه دفعاها. صرخت باسم الجارة، "ام احمد!"، لا رد. رائحة البارود والدم النفاذة تخيم على الاجواء. رفعت راسها المثقل بالهموم نحو السماء الملبدة بالغبار والدخان، النجوم غابت.
اغمضت عينيها لدقيقة، تذكرت حلما قديما بغزة خضراء، مدينة تنبض بالحياة، لا يطاردها الموت. تمتمت بصوت خفيض، بالكاد تسمعه هي نفسها، تناجي آخر بقايا الامل: "دعوا هذه الارض الطاهرة تنفض عنها غبار الموت، تستعيد انفاسها، تلملم شتات ابنائها، قبل ان تغرق في ظلام دامس لا نهاية له. قبل ان يصبح الصمت الصوت الوحيد الذي يسمع. قبل ان تذوي غزة كوردة ذابلة، لتصبح مجرد وشوشة في ريح النسيان." لم تكن هذه مجرد كلمات، كانت صرختها، صرخة كل من بقي صامدا في وجه الفناء. وبينما كانت تحاول سحب الطفل من تحت الانقاض، على الرغم من الالم المستحيل، ادركت ان غزة لن تكون مجرد ذكرى، ما دامت هناك روح واحدة تقاوم، ولو بصرخة خافتة، في اتون هذا الجحيم.






































