تسلّلت خيوط الفجر الأولى، خجلى، تنسج ظلالًا باهتة على جدران المنزل العتيق. كان سعيد يتأمل صفحات ديوانه المفضل، "رباعيات الخيام"، على وهج قنديل زيتٍ يحتضر. عقودٌ مضت وهو يعيش وحيدًا، لم تُؤنِسه سوى همس الكتب ودفء قهوته الذي لا يفارق أركان بيته. اليوم، كان ينتظر بشوقٍ زيارة حفيدته الوحيدة ليلى، زهرة عمره المتفتحة. لم يرها منذ سنوات؛ المرض الأخير أقعده عن السفر، حفرت على وجهه خطوط الانتظار العميقة.
فجأة، اهتزت الأرض من تحته، تبعه أزيزٌ غريب لم يألفه، صوتٌ يزحف كالأفعى الخبيثة ويمزق صمت الفجر. ارتدى نظارته السميكة، ومضى يخطو ببطء نحو النافذة، تتهاوى خطواته على أرضية الخشب البالية. وما إن أزاح الستار حتى تسمّر في مكانه، مُصعَقًا.
ألسنة لهبٍ صفراء وحمراء تلتهم كل ما أمامها بشراهةٍ مجنونة، بينما سحب الدخان الأسود الكثيف تعانق السماء وتخنق الأنفاس. الصراخ يتعالى، يمزق أستار الفجر الهادئ. الحيّ بأكمله يتوهج نارًا. لقد بدأ الحريق من منزل جاره، الذي اعتاد تخزين المواد سريعة الاشتعال فيه، وامتدّ بلا رحمة ليلتهم المنازل المجاورة واحدًا تلو الآخر. كان بيته الهدف التالي.
لم يعترِ سعيد ذرة خوف، بل خيّمت على وجهه سكينة غريبة، كأنه يترقب قدرًا محتومًا. تراجع أدراجه، غير عابئٍ بإنقاذ شيء: لا وثائق، لا مال، ولا حتى ديوانه النفيس. توقف أمام خزانة خشبية قديمة، فتحها بيدٍ ترتجف وداعًا، وأخرج منها صندوقًا معدنيًا صغيرًا، باردًا على لمسته. ابتسم ابتسامةً خافتة، فيما لمعت عيناه ببريقٍ غامضٍ يحمل سرًا.
في تلك اللحظة، اقتحمت ليلى الباب المفتوح على مصراعيه، شهقت بصوتٍ يائسٍ يكاد يبتلعه زئير اللهيب: "جدي! النار! لنخرج!"
مدّ سعيد يده ببطء شديد، كأنه يودع قطعة من روحه، حاملًا في كفه الصندوق المعدني. التقطت ليلى نظرة غامضة في عينيه، مزيجًا من الوداع والاطمئنان، فيما همس بصوتٍ خافتٍ تكاد تبتلعه ألسنة اللهب الزاحفة إلى الغرفة: "هذا لكِ يا صغيرتي. سرٌّ قديم، سيحفظكِ."
التقت عيناهما لحظة أخيرة. لمح في عينيها مزيجًا مؤلمًا من الحب والخوف. جذبته ليلى بقوة، لكنه أثقل خطاه، كأنما الأرض تمسكه بجذورها. لمحت يدها شيئًا يبرز من فتحة الصندوق، شعرت بصلابته وملمسه البارد، فانتشلته. كانت مفاتيح: حفنة متشابكة بحلقة صدئة، بعضها يعود لمنازل لم تعد قائمة إلا في غياهب الذاكرة، وبعضها لصناديق عتيقة طواها النسيان، وآخر لسيارة توقفت عن السير منذ زمن. كانت مفاتيح كل ما فقده في حياته: كل ذكرى تلاشت، وكل أمل مضى. لكنها لم تكن مفاتيح بيته الذي تلتهمه ألسنة النار الآن، وكأن القدر شاء أن تبقى هي وحدها حاملة أقفالًا بلا أبواب، وذكريات بلا مأوى.
انهار السقف فوقهما، دافنًا كل شيء، إلا تلك المفاتيح التي تشبثت بها يد ليلى بقوة.
كانت تلك المفاتيح آخر ما خلفه سعيد. لم ترث عنه ليلى مجرد ممتلكات مادية، بل إرثًا ثقيلًا من الفقد والذكريات المشتتة. ابتلع الحريق كل أمل في استعادة ما ضاع، تاركًا إياها وحيدةً، قابضةً على مفاتيح لأبواب لن تُفتح أبدًا، ولن تعود.