في كبد مدينة عتيقة، تتنفس أزقتها قرونًا من الصمود الصاخب. جدرانها شواهد معلقة في ذاكرة الزمن الغائرة. هناك، حيث تتبدد أشعة الشمس الواهنة صراعًا بين البلاليع الشاهقة، انتصب صابر، الحمار الرمادي، شامخًا بأساه. كان نقشًا حيًّا لحزن متجذر وصمود أبدي. عيناه الغائرتان: مرآة روح أثقلها الدهر، لا تعرف للهدوء سبيلًا. لم يكن صابر مجرد كائن عابر؛ فجسده النحيل، الذي نحتته قسوة الأيام، روى حكاية صمود أسطوري تلامس جوهر الكرامة البشرية. وعلى جنبيه تدلت حقائب بالية تخبئ أسرارًا مدمية. وعلى خصره، استقرت بندقية "كلاشينكوف"، تبرق معادنها الباردة تحت وهج الشمس الخافت، شبح من فولاذ سكن جسدًا لم يُخلق إلا لوداعة الحقول وعرق العمل الشاق. في تلك المفارقة الصارخة بين براءة مرتجفة وهلاك مدجج، تكثفت قسوة زمن أثقل كاهل الأبرياء بعبء يفوق الاحتمال.
وفي كل خطوة مثقلة بالصمت، كانت حوافره تلامس الحجارة ببطء يحاكي زحف قدر محتوم. تودع كل قطعة منها، مذيبة في صمتها صهيلًا مكتومًا يصرخ بالحرية المسلوبة، ويئن من قيد وُضع على عنقه غدرًا. لم تُخلق قوائمه لحمل هذا البارود، ولا رقبته لجرّه نحو هاوية الدمار والضياع.
في عتمة الليل البهيم، حيث ترقص أشباح الخوف على جدران البيوت الصامتة، التمس صابر نبض المدينة المحاصرة، وسمع أنين الريح يهادي بصرخات القصف البعيد. همس في قلبه سؤال أزلي يطارد أرقه ويباري صموده: هل ستشرق شمس الغد على أرض لم تُروَ إلا بالدماء؟ هل ستعود الحقول خضراء يانعة، وتتفتح فيها زهور الأمل لتعانق السماء، وتعيد للحياة ألوانها المسلوبة؟
وعند زاوية شارع مهجور، عيناه على الأفق المترب الذي يخفي مصائر مجهولة، والأخرى على ثقل الفولاذ البارد، بدت صورته تجسيدًا ملهمًا لروح أنهكتها الحروب؛ روح تمتطي صهوة اليأس، لكنها لا تزال تحمل في طياتها شعلة المقاومة المتقدة. تلك البندقية لم تكن مجرد رمز لقوة غاشمة، بل كانت صرخة يأس حمّلت الأبرياء ما لم يقووا عليه، وكرامة تُداس تحت أقدام الضرورة والظلمة.
وبينما صابر يواصل مسيره البطيء، الذي يتمدد كلما ازداد الألم وتراكمت الجراح، كانت حكايته تُنسج في كل حجر يطأه، وفي كل نبضة قلب تقاوم اليأس. صهيله المكتوم يتردد كصدى أبدي في أزقة المدينة المظلمة، صهيل يحكي عن زمن تاهت فيه البراءة، وعن كرامة تُباع في سوق لا يعرف سوى الجشع والقسوة. لكنه في عمقه، كان صهيلًا يرفض الانكسار، يبشر بأن في كل كائن حي، حتى لو كان حمارًا مثقلًا بالبارود، روحًا تأبى الهزيمة، ستظل تذكر أن الأمل، وإن تضاءل كنجوم الليل في ليلة حالكة، وحده من يعيد للصوت صدى، ويكسي البارود معنى يتجاوز حدود الدمار... معنى الحياة.