غمامة
يُحكى أنَّ شجرةً عجوزًا كانتْ تنوءُ بصمتٍ. تجاعيدُ لحائِها تروي همساتِ عصورٍ مندثرةٍ. لم تعرفْ أغصانُها يومًا حلاوةَ الثمرِ، لكنَّها احتضنتْ لغزًا أدهى: فمع اكتمالِ البدرِ، ينحدرُ منها سائلٌ لزجٌ قاتمٌ، كأنَّهُ خلاصةُ العتمةِ السرمديةِ. فزعٌ تغلغلَ في أوصالِ القرويينَ أمامَ هذا المشهدِ، وتجرَّأوا على فأسِها، لكنَّ حديدَهم الصلبَ ارتدَّ واهنًا، كعظامٍ تفتَّتْ أمامَ قوةٍ غامضةٍ. ومع بزوغِ الفجرِ ونجوى الريحِ، وجدوا تحتَ ظلالِها طفلًا رضيعًا، وجهُهُ إشراقٌ نقيٌّ، لكنَّ عينيهِ ليلٌ دامسٌ، كأنهما تختزانِ أنينَ الشجرةِ الأبديَّ.
نذير
سقطت قطرة الشمس الأخيرة على جفنه المثقل. كانت المدينة صمتاً مطبقاً، إلا من نحيب الريح العقيم في أزقة الذاكرة. فتح عينيه على بياض السقف الشاحب، كلوحة لم تُكتب عليها الخيبة بعد. ثم رأى طيفاً طويلاً يمتد من الزاوية، يعرفه كما يعرف نبض قلبه المتوقف. لم يكن الحضور القاتم وحده هذه المرة؛ كان يحمل مصباحاً مطفأ.
كاتب
تتصارعُ الكلماتُ في رأسهِ كوحوشٍ فكريةٍ، يخشى "نورٌ" خيانةَ اللغةِ في وصفِ ما يعتملُ داخلهِ، ويقلقُهُ صدى حروفهِ في أرواحِ القراءِ. بقلمهِ الصيادِ، يقتنصُ رؤيتهُ الهاربةَ بين السطورِ. في تلك الليلةِ، انهمرتْ حروفُهُ كشلالٍ أسودَ يلمعُ بنجومِ ذهنهِ؛ حتى الصفحةِ الأخيرةِ. أغلقَ مؤلَّفَهُ بارتياحٍ: "الحقيقةُ المطلقةُ". في الصباحِ، وجدَهُ ابنهُ مبتسمًا، وأولى صفحاتِهِ تحملُ كلمةً وحيدةً: "كذبٌ".
قحط
في حلكة مدينة تلفها كفنٌ أسود، انقض عليها وجعٌ مستميت كوحش كاسر. جفت المآقي، استحالت ينابيعَ داميةً متحجرةً. ذات غسق، شيخٌ أحدودب الظهر، تجاعيده خرائطُ لسنين عجاف. يحدق في رفات حاضرته المتداعية كأنقاض حلم بعيد. عصت الدموع عينيه؛ استقر الألم في أعماقه صمتًا أثقل من رصاصة، جرحًا غائرًا بالروح أبى الالتئام. توارت من ذاكرته لذة البكاء، كما النجوم خلف غيوم سوداء، انتُزعت منه قسرًا. وفي تلك اللحظة، لم يعد الشيخ يميز بين خرائط تجاعيده وخراب المدينة، فجسده بات امتدادًا لرفاتها.
مفارقة
نجا بأعجوبة من حادث سير مروع، لكن شيئًا انطفأ في عينيه رغم فرحة عائلته. شاحبًا، يردد كلمات الشكر بصوت خافت، وكأنه يحمل عبء النجاة أكثر من بهجتها. في تلك الليلة، بينما كان يرفع كأس العصير المهتز احتفالًا بـ 'المعجزة'، تمنى لو أنه لم ينجُ. ثم انهار فجأة. سكتة قلبية مفاجئة أنهت حياته.
انكشاف
في واحة هادئة، ارتفع الشيخ "سالم" بهالة قدسية؛ عقود من السكون كست حضوره سكينة، ونظراته موعظة. في ظهيرة قائظة، وبين لفح الرياح، اقترب "طارق" المتهور ليسخر من وقاره الجالس تحت النخلة، هامسًا بكلمة نابية. ارتعش الشيخ النحيل، وعيناه العميقتان تخترقان الشاب بحدّة. فجأة، دوى صوت لم يعهده أحد: "طارق؟!". سقطت عمامة الشاب، وشحب وجهه تحت تأثير تلك النظرة المتقدة. عاد الشيخ إلى صمته العميق؛ وخيّم الذهول على القرية لتلك الكلمة الوحيدة التي أيقظت التساؤلات. بعد أسبوع، وفي حكايات العجوز زينب عن الماضي، ظهر اسم "فاطمة" وابنها المفقود "طارق"، لتربط الحكايات الغائبة بالحاضر. وحين ذكرت ندبة مميزة في عنق الرضيع المفقود، وتذكر أهل القرية علامة مماثلة لدى الشاب، هكذا انكشف سر طول سكوته: لقاء أب بابنه الضائع.
تحول
على عتبة مقهى الزمن البائد، عاد سبعيني مثقلًا بندم رحلة العمر. لم يجد صدى ضحكاته الشابة. في مرآة معلقة تجسد شبابه الغائب. عيناه تلمعان ببراءة الأمس، تسألان بذهول: من أنت؟ ولمَ يحمل وجهك حزن الغد؟ أجابه الشيخ بصوت مبحوح: أنا أنت... حين سرق العمر وهجك. صمتٌ... تأمل شيبًا وخطوط أسى، عكسًا لمصيره المجهول.
صحوة اللحد
اهتزت الروح في غياهب الظلمة، محتضنة صمت التراب وزمهرير الكفن. عبثًا حاول الصراخ؛ خانته الحنجرة المكلومة. لقد سبقه الموت، وبات القبر عرشًا أبديًا.
برزخ
في كهف الصقيع، استسلمت روحي للزوال. دفنت أحلامي في عمق لا نهاية له. صرخت، لكن صمتي كان أشد صوتًا. تلاشيت في الظلمة، ولم يبقَ مني سوى ذكرى متجمدة. وفجأة، انفتح الكهف على ضحكة طفل صغير يكتشف هيكلي المتجمد.
تذكار
عبر النهرَ الأسودَ على قاربٍ من آمالٍ ذابلةٍ. مجدافُه وهمٌ. شراعُه صمتٌ مُطبقٌ. لم يستسلمْ لليأسِ، بل حملَ في قلبِه شعلةَ ذكرىً عزيزةً رفضتْ أن تنطفئَ. على الضفةِ الأخرى، رأى مدينةً من النورِ الخادعِ، حجارتُها إرثٌ مُهمَلٌ وسكانُها غمغماتُ فرحٍ لم تُعَشْ. شعرَ بالغضبِ تجاهَ هذا النسيانِ الذي يلتهمُ عبقَ الماضي، وقررَ أنْ يوقظَ تلك الهمساتِ ويعيدَ إليها شيئًا من حرارةِ الحياةِ، وإنْ كان تحديًا للعدمِ.
غموض
ارتطم المجرف بشيء صلب تحت شجرة الزيتون الموروثة. صندوق خشبي صغير. رائحة تراب عتيق ودخان خفيف... آخر سيجار لجده المختفي. ورقة صفراء باهتة، ثلاث كلمات بدم جاف: "هم يعرفون. اهربْ." نفس السكون القاتم لبستان الزيتون ليلة غيابه يسود الآن، لكنه يحمل تهديدًا. "من؟ ماذا يعرفون؟ لماذا أهرب؟" برودة سرت في عروقه، خوف حل محل أمان طفولته. الشجرة الصامتة، حكمة عجوز تكشف بؤرة أسرار وخطر في جذورها. رائحة جدّه الدافئة تنبعث من صندوق الموت. لم يفكر. ركضَ.
أزل مؤرق
في أطياف منزل لم تطأه قدم، تجلت صورته. وشم تحته يمزق الفؤاد: "قبل مولدي". أي أزل تراءى فيه وجهه؟ وأي كابوس نسج وجودًا لم يبدأ؟
سراب
في صميم رمضاء متصاعدة، مزقت الوحدة سكونها. جرَّه العطش، وحش خرافي ضرامه ألسنة اللهب، إلى بئر مهجورة، هاوية الضلال. بدل ارتواء، لاح في العتمة وهج أحمر دموي. فرَّ، تاركًا صرخته تبتلعها الصحراء الصماء.
سكينة
كان بارعًا في فنِّ الجدالِ، لسانُه كالسيفِ قاطعًا وحججُه كالجدارِ متانةً، مُتفرِّدًا في النقاشِ. يستلذُّ بانتزاعِ اعترافِ الخصومِ بالهزيمةِ، معتبرًا ذلك ذروةَ انتصارهِ. لكن مع تقادُمِ العمرِ وارتسامِ تجاعيدِ الحكمةِ على وجهِهِ، خَبَتْ حدَّةُ الجدالِ في عينيهِ تدريجيًّا. وذاتَ يومٍ، في أوجِ معركةٍ كلاميةٍ، صَمَتَ فجأةً، بينما ينتظرُ الجميعُ حجَّتَه القاضيةَ التي ستُسْكِتُ الخصومَ. لكنَّه ابتسمَ ابتسامةً باهتةً وهمسَ بهدوءٍ: أدركتُ فجأةً أنَّ سلامَ القلبِ أغلى من كلِّ هذا العناءِ.
تائه في ليل
مدادًا في ليلة مدلهمة غائمة، أضيع في دياجير الوحدة، وأبحث عن بارقة نور في عينيك، كمن يستقصي نجمة في سماء حالكة. ويظل الليل يلفني، فلا نجمة تظهر ولا بارقة تلوح.
مرارة
في قفص ذهبي، ببغاء يتقن ألف لحن. خارجه، طائر حرّ يواجه الموت جوعًا. لم يفهم أحد لماذا يرفض الفتات الذي يُلقى إليه خلسةً. ذات صباح، وجدوه ساقطًا، وعيناه تحدقان نحو الببغاء الذي يكرر ببلادة: الحرية ثمن غالٍ... غالٍ جدًا.
سراب
سنوات قاحلة تعاقبت ككوابيس. شبح وجه شاحب يطل من سواد الليل. عينان تقدحان بجمر الهذيان. أمام مرآته الصدئة، رأى محجريه يشتعلان بضراوة هذا الخبل. خيال نسج خيوطه الشبحية حول روحه، متحولًا إلى حقيقة تنهش لب عقله، ليصبح الكائن الأسطوري الذي هرب منه، رعبًا يسكن الرمال.
رذيلة
تماهى جسداهما في وهج الشهوة. بعد تسعة أشهر، بين آلام المخاض ودهشة الأطباء، وُلد لقيط. نظرة الأم الشريدة استقرت على وجه غريب، وقلب الأب تمزق. بذرة ليلة عابرة أثمرت لغزًا أبديًا.
رقيب
كابوس متكرر بدأ يستوطن لياليه. فراغ ضبابي لا تحدده الجدران، بل يتشكل بحدود خوفه. فيه كيان ببؤبؤ واحد، تستطلع نظراته خفايا عقله. شبح مدرك لأسراره وسيد على أعمق خفاياه. ذات ليلة، بينما كان يغوص في النوم طلبًا للنجاة من يقظة مضطربة، أحس بأن الرؤيا تطوقه. هذا الغيم المتكاثف يتحول ليصبح عينًا واحدة مهيمنة، تملأ أفق إدراكه وتخترق صمت ضميره بنظرة آسرة.
رحيل
عاد إلى مسكنه مثقلاً بالوهن. دلف العتبة، فاستقبله سكون مطبق، حيث غابت ضحكات ولده المعهودة. تسلل قلق خفي إلى قلبه وهو يصعد السلالم ببطء نحو غرفته. رآه راقدًا في مهده، ابتسامة باهتة تستكين على شفتيه الصغيرتين. اقترب ليقبله، لكن برودة سرت في أنامله جمدت فرحته. هزّه برفق فلم يستجب. فجأة، سقطت من يده ورقة مطوية، فتحها الأب ويده ترتجف، فاخترقت كلماتها القليلة فؤاده: أبي، طال انتظاري... رحلت لألعب في عالم آخر.
انبثاق
في لهيب الجحيم المتأجج، حيث السماء تُمطر حممًا مُحرقة، والأرض تتلوى تحت لذعات الوجع، ثارت القرية كالبركان الهائج. ازدرى الغازي. لكن حدقات الأبطال، كبصيص الحقيقة، بدّلت الرماد فجرًا وضاءً. أجسادهم أوانٍ سماوية؛ إرهاصات انبلاج لم تخطر ببال فرعون. غطرسته تجرعت لهيب حناجرهم المتقدة. دماؤهم خطّت خلودًا أبديًا. ملاحمهم نيازك تدوي بإجلال. جنح نحو الظلام. تألق السيف المضرم. اضمحل زيفه كشبح وهم.
هلاك
يمشي على حافة الهاوية، خطواتُه تراتيلُ للخوف إثر فقدانه كل شيء. في الأسفل، المدينةُ وحشٌ جائعٌ يبتلعه ببطء، وأضواؤُها أسنانُه. مدَّ يده إلى الأعلى، فتلقَّفتْها يدٌ أخرى دافئةٌ، قويةٌ، واعدةٌ بالنجاة الزائفة. عندما رفعه، رأى الوجهَ يبتسمُ بشفقةٍ قاتلة. ثم سقطا.
خيبة
في صومعةٍ مهجورة، عاش وحيدًا عقبَ خيبةِ حبٍّ مريرة. أيامه باهتة، يقضيها بين صلاةٍ وكتابٍ عتيق. ذاتَ مساء، وجدَ تحتَ البابِ رسالةً مُغبرةً بخطٍّ مألوف. فتحها ببطءٍ وقلبُهُ يخفقُ برجاء. كانت كلماتها اعتذارًا حارًا ودعوةً للعودة. ابتسمَ للمرةِ الأولى منذُ سنوات. نهضَ ليفتحَ الباب. لكنه وجدَ فراشةً ميتةً على عتبته، تحمل اعتذارًا مرسومًا على جناحيها.
قناع
في مملكة المرايا، حيث الأقنعة من زجاج مكسور، وكل انعكاس كذبٌ مشوهٌ للواقع، أحبَّ أميرٌ أميرةً تحمل مرآةً بدلًا من وجهِها. وعندما حطَّم مرآتَها ليكشفَ عن جمالِها الحقيقيِّ، لم يجدْ سوى فراغٍ باردٍ، فقد كانت المرآةُ ذاتَها وجودَها.
دمشق
في قلبِ دمشقَ، حيثُ الياسمينُ يُعطرُ الأزلَ، وُلِدتْ عنقاءُ. لم تكنْ من وهجِ نارٍ، بل من جراحٍ أغارتْ على الأرواحِ. كلما ظنُّوا أنَّ اليأسَ ألقى بظلالِهِ، انتفضَتْ؛ أزاحتْ عن جناحيها غبارَ النكباتِ، وارتفعتْ، فينيقًا خالدًا، مُبشِّرةً بفجرٍ وشيكٍ، هامسةً في أُذنِ الدهرِ: "هنا، لا أمل يضمحلُّ."
صدى الثرى
مزق جوف الليل أنين طفله المفقود. هرع الوالد، وقلبه يتصدع رعبًا، ليجد المهد كهفًا باردًا. وما هي إلا هنيهة، حتى ارتجف الفضاء بصوت غائر: صوت دفن يبتلع الفراغ.
ضغينة
كانت تبكي بحرقة على قبر زوجها، الذي قتله مجهول قبل شهر. شعرت بيد تربت على كتفها. التفتت فرأت حماتها تبتسم بحنان وتقول: "لقد كان يستحق أكثر من رصاصة واحدة!".
قوارب نسيان
أمواج العدم العاتية تتلاطم على شواطئ الذاكرة، وتطفو ذكرياتنا كقوارب مهجورة، تستجدي مرافئ الحنين المفقودة. فلا ترسو إلا على شاطئ الصمت، حيث تبتلعها رمال النسيان.
عناق
مد يديه لعناقها. تقدمت منه فاتحة ذراعيها؛ وعندما اقتربت أنفاسهما، تلاشت واختفت. فشرع يعانق طيفها ويقبل خطواتها.
نحر
تفيض القلوبُ محبةً وخشوعًا في عيدِ الأضحى. دماءُ القربانِ تُزهرُ النفوسَ يقينًا، وتُضيءُ البصائرَ بنورِ الإيمانِ.
انعدام
ظلمته تخنقني، سيف جدي يشرّح روحي. لهيب ظمأ حصاني بصيف قائظ يطبق على أنفاسي. أقتات رماد الذكريات، تتكسر أضلعي على قارعة العدم. فقط أنين يتلاشى يهمس في غور الفراغ: "كيف يحيا الورد والماء غائب؟"
وداع
ماتت في عينيه؛ نطقت قبله الدموع... ثم ابتسم.
خضوع
ماتت الشجاعة؛ ولد الذل.
خذلان
جرحوا قلوبهم؛ خاطوها بالوهم.
عبث
لوثوا النبع؛ سقوا سرابًا.
سراب
هدموا بيوتهم؛ بنوا وهمًا.
هلاك
سرقوا الاحلام؛ زرعوا الكوابيس.
عتمة
أطفأوا النور؛ رسموا ظلالًا.






































