على ركام بيته، ترنّح أيوب، وقد غدا جسده وعاءً من غبار، وعيناه غشاءً لحلمٍ أُجهِض. هنا، حيث صدحت ضحكات الأمس، اجتاحت رياح العدم المكان، تاركةً صمتًا يدمي الآذان ورمادًا يوشّح الأزل.
لوح إعلانيّ باهت يهمس: "كُن أنتَ التغيير." ارتسمت على شفتيه ابتسامةٌ مريرةٌ لاذعة. كيف يمكن تحويل هذا الموت إلى جنة؟ لقد كابد حتى الثمالة، بيد أنّ النتيجة لم تكن سوى انهيارٍ مُطبق. كلما أوقد شمعةً، أطفأتها رياح اليأس القاسية.
وفجأة، ومض شيءٌ بجواره كـومضةِ ضوءٍ خاطفة. علبةٌ معدنيةٌ صدئة، قد ابتلعها التراب. مدّ يده المتعرّقة، فالتقطها. كانت خاويةً كأنها الفراغ. هزّها، فسمع حفيفَ حباتٍ تتراقص في جوفها. بفضولٍ جامحٍ، فتحها.
لم تكن أرزًا، ولا نقدًا، بل بذورًا. ذراتٌ صغيرةٌ بلون الأرض. نظر إليها بذهولٍ أخرس، ثم إلى الخراب الذي يلفّه. أيُّ سرٍّ كامنٍ في صحراء الموت هذه؟
تنهّد، وبلا وعيٍ منه، حفر حفرةً بأصابعه المرتعشة، وألقى بذرةً وحيدةً، كأنما يلقي بقطعةٍ من روحه في فم العدم. أعاد التراب فوقها، وسقاها بقطراتِ دمعِ عينيه القاحلتين. ثم قعد يراقب الفراغ المُوحش.
مع أول خيوط الفجر الوهّاج، فتح عينيه المنهكتين. من حيث أُلقيت البذرة، انبثقت نبتةٌ صغيرةٌ خضراء، عنيدةٌ كالحياة. كانت صغيرةً كطفلٍ وليد، لكنها كانت هناك، حقيقةً ملموسة.
ارتعش جسده كله. لم تكن مجرد نبتةٍ، بل وميضَ المعجزة. انتفض، وبدأ يحفر، ويزرع، ويسقي. بذرةٌ تلو بذرة. كل نبضةٍ خضراء تصرخ في وجه الخراب: "هنا حياة!"
بعد أيامٍ قلائل، تحول ركام الأرض إلى واحةٍ خضراءَ نضرة. تفتحت زهورٌ بريةٌ رقيقة. عادت الطيور تغرّد بأعذب الألحان.
شيخٌ طاعنٌ اقترب منه، صوته خافتٌ كـأنفاسِ الموت: "لقد كنتُ هنا أدهارًا، وما وجدتُ سوى العدم. من أين لك هذا الجنون الجميل؟"
ابتسم ابتسامةً حقيقيةً، لامعةً كفجرٍ جديد. أشار إلى البذور المتبقية في العلبة، التي غدت الآن نصف فارغة. وقال ببسمةٍ تخفي مرارة السنين:
"يا صاح، لم تكن المشكلة في الخراب، بل في أعيننا التي أبصرت الركام ونسيت التراب. في كلِّ منا بذرةٌ، تنتظر أن تُدفن لا لتموت، بل لتبعث." ثم أدار ظهره للشيخ، ومشى نحو الأفق، لا ينظر إلى الواحة التي صنعها، بل إلى علبة البذور الفارغة في يده، وكأنها لم تكن يومًا مليئة.