جَثَمَ عند مِنضَدةِ الخشبِ المنسيَّة. الأرقُ لم يُدمِ عينيهِ؛ أحالَ حَدَقَتَيهِ مَزلاجَيْنِ لليقظةِ المُتعَبَة. تطلَّعَ إلى البياض: مَسودةُ العَدَمِ البتول، عروسٌ مُطِلَّةٌ من شُرفةِ حُلمٍ لم يُؤثَّثْ.
"يا قِبلَةَ المَعنى، يا مَنْبَتَ الخلود، أشرِقي بقطرة من نَبعكِ المَختوم، زَوِّديني بلمعة من سِرِّكِ العميق."
صمتُها كان ثُقلَ الخواء، بحرٌ زئبقيٌّ تتربصُ في أعماقهِ هياكلُ المدائنِ الغارقة. هزَّ رأسه مُتضرِّعًا، وكأنه يُقدِّمُ طَقسًا مُهيبًا: "أفيضي، أيتها المعشوقةُ المُلهمة، ليَنسابَ المَدَدُ بينَ الأصابع، لِيَغدوَ إسمي رَسماً نورانيًّا على جَبينِ الرَّيب. اجعليني قُرْبانَكِ الأوحدَ على هذا المذبح."
زَفَرَ بضيق. لم يتذكر كيف كان يتضور جوعًا؛ اِشتَعَلَ وَخزُ الحِرمانِ في جَوفه؛ تذكَّرَ كيف كان الآخرونَ يَغرِسون خيامهم في حياضها، يقطفون جواهرَها واحدةً تلو الأخرى، وهو يقبعُ على شاطئ الرَّماد.
رفعَ رُمْحَ القَلَمِ، يُحاوِلُ لمسَ حافَّةِ اليقين. حامَ فوقَ المَسودة، بِنَزْعَةِ عِشقٍ صامِتة.
فَجأةً...
انشَقَّ سَقفُ البياضِ بزمجرةٍ كونيَّة. لم يَسِلِ الحِبرُ؛ انفجَرَ شَلاَّلُ عَتمةٍ دَامية، كانت خلاصةَ وجدانِه المَهزوم. ارتجفَ القاصُّ كعصفورٍ مُبلَّل، وإذا باللَّونِ القاني يَرتَسِمُ على وجهِ الصَّفحة:
"أَنتَ لَسْتَ سِوى هَمْسَةٍ عابرة في سِفْرٍ لم يُفتَتَحْ بَعد."





































