كان الشيخ مصطفى، سليل الأرض والذاكرة، يلامس بأصابعه المرتجفة أطلسًا تهتَّك كجلد الكرامة. لم تعد خطوط هذا الوجه الجغرافي تلقي بظلالها إلا على روحه في مستوطن الصقيع والغربة. كان جل دِفئِه يأتيه من هذيان الملاحم عن شواطئ تُهرَق ذهباً، وكُثبان "تشرح للرياح سرَّها".
هجم على صندوق جده المُنْتَقَل عبر الأجيال. لم يعانق يده تِبْرٌ مدخر ولا حد سيف مشحوذ، ولكن قبضة تراب يبيس. عبثًا حاول استحضار وعيه، فَمَلمَسُهُ الأصفر كان لا يزال بصمة الجذور في كفه.
زفر زفرةً تقطر حسرةً، وعاد إلى صقيع المأوى المستأجر. ألقى بصره من نافذة الغرفة المعلقة، فشهد طائرة شحن كسحابة سوداء تبتلع المهبط، حاملة بطنها المتورم بتوابيت ضخمة.
في الصباح، سمع هدير الإذاعات: "تجريد غير مسبوق، وبيع لأمهات المخطوطات والمحفوظات؛ هي الآن بضاعة عابرة من أرض القَدَرِ."
في حديقة المبنى، رأى طفلاً غضًا يشيد قلعته الزائلة برمل لا يخطئه القلب. يا للرمز! إنه عين التراب الذي حمله الأجداد، اشتراه أبواه من "سوق بيع تذكار الأوطان".
اقترب كالشبح. التقط ذرة واحدة من صرح الصغير. همس الطفل بفرح يشوي الروح: "هذا رمل الخلود، اشترته أمي ليصبح مُتَّسَعي الوَطنيَّ!"
شعر مصطفى أن الحبة تكويه. أدرك أن ما انتُزع لم يكن مجرد حيز مبوَّب، لكنه تحول إلى حُجَّة في أرشيف يُباع. لوَّث ريقه بغُصَّة. لو أنه احتفظ بالمزيد من رمل الصندوق المُنْهَك، لبقي شبح موطنه بين يديه. نظر إلى الذرة في كفه، إلى القلعة، فإلى الفراغ الذي ابتلع كفه بعد نفض الحبة.
الآن، صار كل 'هناك' يُباع لِـ 'هنا'، ويُشحن في حاويات الفقد.






































