على رصيفٍ متهالكٍ، تحتَ شمسٍ تميلُ للغروبِ، جلستْ فاطمةُ المسنَّةُ، تُرخي كتِفيها لثقلِ الزمنِ. يدُها ترتجفُ وهيَ تُمسكُ بمظروفٍ أصفرَ، أظافرُها تُعانقُ أطرافَهُ المتهرئةَ.
عبرَ الشارعَ رجلٌ. خطوتُه تدُقُّ الأرضَ، وعيناهُ تُحدّقانِ في الأفقِ كأنهما يبحثانِ عن فريسةٍ. لمْ يلتفتْ إليها، كأنّها مجرَّدُ ظلٍّ مألوفٍ في زحمةِ الرصيفِ.
لكنَّها، وفي لحظةٍ عابرةٍ، رفعَتْ عينَيها. توقفتْ خطواتُهُ فجأةً. بريقٌ خافتٌ في عينيها كانَ يُشعلُ في داخلهِ رغبةً غريبةً، رغبةً قديمةً، كأنّها جرحٌ لم يندملْ.
اقتربَ ببطءٍ، كأنّهُ يقتربُ من فخٍّ ناصبَهُ لنفسِهِ. جلسَ على الرصيفِ، على مسافةٍ قريبةٍ منها، لَمْ يتحدَّثْ. نظراتُهُ كانتْ تتأرجحُ بينَ وجهِها المليءِ بالتجاعيدِ والمظروفِ الذي تدلَّى من يدِها.
انتبهَتْ إليهِ. لَمْ ترفعْ رأسَها، لكنَّها شعرتْ بوجودِهِ. رفعتْ يدَها المتعبةَ، وأخرجَتْ قطعةَ خبزٍ جافَّةٍ، وفتَّتَتْها إلى أجزاءٍ صغيرةٍ، ثمَّ نثرتْها على الأرضِ. تجمَّعتْ العصافيرُ حولَها، تنقرُ الحباتِ الصغيرةَ.
ابتسمَتْ ابتسامةً ناقصةً، وكأنّها تَعرفُ أنَّ السعادةَ لَحْظةٌ عابرةٌ.
فجأةً سَقَطَ المظروفُ من يدِها على الأرضِ. رفعَ الرجلُ يدَهُ ليمدَّها إليهِ. كانَ متردِّدًا، لكنَّه في النهايةِ أخذهُ.
كانَ المظروفُ فارغًا. لَمْ يكنْ فيهِ شيءٌ سوى قطعةِ ورقٍ صغيرةٍ، كُتِبَتْ عليها بخطٍّ مرتجفٍ: "إلى ابني الحبيبِ، لقد انتظرتُكَ، لكنَّ النورَ في عينيَّ انطفأَ".
رفعَ الرجلُ عينَيْهِ. فاطمةُ قدْ اختفَتْ. لَمْ يَعُدْ هناكَ أحدٌ على الرصيفِ. نظرَ إلى الورقةِ في يدِهِ، ثمَّ إلى الرصيفِ الفارغِ. رفعَ يدَهُ المرتجفةَ إلى قلبهِ. لمْ يجدْ فيهِ سوى فراغٍ باردٍ.
كاتب وقاص ليبي