تشربت الموجة الأولى جلده ببرد قارس، لم يكن ليدركه لولا صليل العظام المتكسرة في جسد جاره. كانوا يحسبونها الرحمة: تلك الزرقة الممتدة بلا أفق، وعداً بضفة لم تخطر ببال حلم. حملتهم أضلع مطاط واهنة، يتراقصون فوق حبر الظلام، وكلٌ يصلي سراً لأول قدم تطأ أرضاً لم تخن.
تسارعت دقات القلوب مع كل عمود ماء ينطح القارب، كأنما تعلن عن سباق محتوم نحو المجهول. تصدعت الأخشاب الرقيقة تحت أوزان أحلام بائسة، وبدأ الماء يتسلل خلسة، يلتهم بقايا الأمل قطرة قطرة. لم يعد الصراخ مسموعاً فوق هدير الموج الغاضب، ولا الوجوه تُرى في عتمة الفاجعة المتسللة.
وعندما ابتلعت أمواج اليم آخر أنفاسهم، ولفت بقايا الحطام في رداء من النسيان الأزلي، بقي القارب ينتفخ فارغاً، إلا من أوهام ملقاة، وحذاء طفولي وحيد عائم، يشير بصهيل خافت نحو الأفق حيث لا أحد ينتظر. كان كل ما تبقى من رحلة الأحلام هو قارب لم يغرق بعد، معلناً عن نجاة مفجعة؛ فقد ابتلعت أمواجه كل من فيه، وتركته شاهداً صامتاً على غياب لم يسجله تاريخ.