السادسة مساءً. ابتلع الأفق شمس الثلاثاء كجمرة متّقدة. شدّت فاطمة وشاحها، مُثقلاً بعبء سبعة عقود من التردد. أطلقت ساقيها لريحٍ عاصفة، تركض في تيهٍ دائري؛ كل نبضة ساعة تعيدها لركن تمثالها البارد. وجهها له، خالٍ من النور، صوتها وتر مقطوع، لا يملك رنين حنجرتها.
على بُعد مئة خطوة ضوئية، لمع ضوء منارة مصطفى عند حافة الرصيف العتيق. لم تكن حجراً يضيء للسفن. كانت بوصلتها الوحيدة، لا تخضع لقانون الجاذبية. رأت في عينيه الشاطئ الأبدي، ملاذ الأقدام التائهة من الوَهَن. الفرار من التمثال كان وقوفاً أمام مرآة مشروخة. الفرار إليه كان الغوص في بركة الوجود.
وصلت إلى العتبة. ألقت حمولتها من رماد الأيام عند قدميه. ارتجف جسدها. همست، صوتها يذوب كجليد: "أنا هنا، ابحث عني فيك."
مدّ مصطفى يده بهدوء. أخرج من جيبه بطاقة هويتها القديمة، وضعها في كفّها. ابتسم ابتسامة باهتة، كضوء شمس يغرب خلف سجن.
نظرت إليها. لم تجد ملامحه. استحال الشاطئ والمنارة إلى سراب. ترَاءَت لها صورتها القديمة، عينَا التمثال تحدقان بها من داخل الإطار، من داخل ذاتها.
أدركت: المرفأ الأخير نقطة لتدوير الذات. مصطفى ساعي بريد. لقد فرّت عبر المكان، لم تستطع الهروب من ماضيها الذي حبسها في الهوية القديمة.






































