بصرٌ يَثقبُ عتمةَ الصحراء. يدانِ تُشكلانِ عجينَ الحياةِ فوقَ جمرِ الرمالِ، تَهمسانِ بحكاياتٍ قديمةٍ. خبزُ الملّةِ يُخبَزُ بمهلٍ كالصمتِ، يَتسرّبُ منه دفءُ السنينَ، ويُوقظُ شبحَ ذكرى. لا شيءَ يَقطعُ هيبةَ اللحظةِ سوى حفيفِ الرمادِ، ورائحةِ الخبزِ الفوّاحةِ في أنفاسِ الليلِ. في هذا اليومِ بالذاتِ، قبلَ عامٍ تمامًا، ابتلعتْ عاصفةٌ رمليةٌ ابنَهُ الوحيدَ، وكانَ يَخبزُ هذا الخبزَ اليومَ في ذكرى فُقدانِهِ المريرِ.
فجأةً، اهتزّتِ الأرضُ تحتَ قدميهِ. توقّفَ الرجلُ، عيناهُ تتساءلانِ في الظلامِ الكثيفِ. تَصدّعَ الرملُ حولَ الخبزِ المتوهّجِ، وانفتحتْ فجوةٌ صغيرةٌ. من عُمقها، أطلّتْ عينانِ بشريّتانِ براقتانِ، تملؤهُما خوفٌ وتوسّلٌ. لم تكنْ تلكَ الفتحةُ سوى فمٍ لصغيرٍ بشريٍّ انبثقَ من الرملِ وكأنهُ وُلِدَ منه. همستْ شفتاهُ المتشقّقتانِ بصعوبةٍ تكادُ لا تُسمعُ، لكنها حملتْ نغمةً مألوفةً أيقظتْ رعبًا عميقًا في روحهِ.
تصلّبتْ ملامحُهُ. تَجمّدتْ يداهُ. سقطتْ عصاهُ من قبضتِهِ المرتعشةِ. حفرَ الذهولُ والرعبُ أخاديدَ عميقةً في وجههِ. هل كانَ هذا حقيقةً؟ أم أنَّ الصحراءَ بدأتْ تُمارسُ ألاعيبَها بعقلِهِ المُثقلِ بالأسى؟
رفعَ الطفلُ يدَهُ الصغيرةَ، المتّسخةَ بالرمالِ، نحو قطعةِ الخبزِ الساخنةِ التي يتوهّجُ لهيبُها الخافتُ، وهمسَ بقوةٍ كافيةٍ لتمزيقِ صمتِ القفراءِ: "أبي، هل الخبزُ جاهزٌ؟ أنا جائعٌ." الكلمةُ، الصوتُ، الشبهُ... كلُّ شيءٍ أنينٌ لذاكرةٍ مؤلمةٍ. كانَ ذلكَ ابنَهُ، نعم، لكن ليسَ كما عرَفَهُ آخرَ مرةٍ.
عندها انفجرتْ عيناهُ دمعًا، لا فرحًا يَمحو ألمَ السنينَ، بل بمرارةٍ حارقةٍ لم تُفارقْ روحَهُ. الخبزُ ذاكَ لم يمسَّهُ أحدٌ منذُ عامٍ مضى. انهارَ الرجلُ على الرمالِ الساخنةِ، يدفنُ وجهَهُ بينَ يديهِ المرتجفتينِ، والخبزُ يتوهّجُ كشاهدٍ صامتٍ على وهمٍ لا ينتهي، وندمٍ عميقٍ تدفنُهُ الرمالُ معَ كلِّ ذرةِ غبارٍ.