علي يا علي أصحى بقى كل يوم تعذبني كده …
ينتفض علي من مكانه، لكنه يجد نفسه يجلس على مقعد خشبي كبير في حديقة مستشفى السرطان ينظر حوله كأنه يرى المكان لأول مرة ويتذكر عندما جاء من سنتين إلى هنا كان يتشبث بيد أمه كأنه طفل في الثانية من عمره ليس شابًا في العشرين حديقة واسعة مليئة بالأشجار والأزهار الملونة شبابًا وفتيات يسيرون ببطء يستندون على ذويهم منحنيَّ الظهر كأنهم كهول دخلت مع أمي الاستقبال وكان أمامنا فتاة وحيدة تتكلم مع الممرضة صوتها الناعم ملئ بالوهن وشعرها البني القصير ووجهها المائل للاصفرار تمسك بطنها وتهمس بكلمات لا استطيع سماعها ثم تعتذر الممرضه، تقوم مسرعه معها لتسندها وتذهبان ويختفيان بآخر الممر وعيني مازالت معلقه بهما لعلهم يعودان وأراها من جديد ولكن نبهتني أمي أن هناك ممرضة أخرى سوف تأتي معنا إلى الطبيب كنت أسير مع أمي لأصعد السلم الكهربائي وعيني لا تزال تراقب الممر دون فائده.
دخلنا للطبيب وكنت أشعر بتعب مفاجئ كان يأتي لي باستمرار صداع ودوخة حاولت الصمود ونظرت للطبيب كان يتفحص الأشعة بدقة.
حتى أخبر أمي أن لدي سرطان بالدم بالمرحلة الثانية حاولت أمي أن تتماسك رغم دموعها التي كانت تتساقط رغمًا عنها.
أخبرها الطبيب أن يجب أن يتم التواجد بالمستشفى لبدء العلاج الكيماوي بأسرع وقت
خرجت من عند الطبيب، كان كل شئ بالنسبة لي ضبابي جلست في صالة الانتظار وذهبت أمي لإنهاء بيانات دخولي المستشفى.
رفعت رأسي قليلا فوجدت الفتاة التي رأيتها في الصباح وجهها كان أكثر شحوبًا تستند علي الجدار حاولت اغمض عيني قليلًا لكي أرى ملامحها جيدًا دون جدوى وبلحظه تساقطت كتساقط أوراق الشجر بفصل الخريف
قمت مسرعًا لإنقاذها ولكن بدوري تساقطت كرصاصة مدوية في مكان فارغ بجوارها لامست يدي يدها ولم أشعر بعدها ماذا حدث؟
فتحت عيني قليلًا وجدت أمي بجواري تقرأ ما تيسر من القرآن ويوجد محلول بيدي حاولت أن أتكلم ولكن لم أستطع وبعد قليل شعرت أنني قادر على نطق بعض الحروف
-أمي .. نظرت لي أمي بعمق وقالت:حمدالله على السلامة يا ابني
-هو حصل إيه وكان فيه بنت … ووجدت دقات قلبي تضرب صدري بعنف، لم استطع أكمل سؤالي
أمي: انت بس دوخت شويه
أصبح سؤالي عليها بداخلي لا اعرف إخراجه فقلبي يرجف أشعر بإعياء شديد مرت ساعات الليل طويلة كأنها دهرًا.
لا أدري هل نمت أم كنت في غيبوبة ترهق جسدي كلما فتحت عيني
ليلة ثقيلة وعندما حل الصباح ازلت المحلول من يدي، نظرت بجواري فإذا أمي تنام على الأريكة قمت ببطء وفتحت باب الغرفة ونظرت يمينًا ويسارًا لم أجد أحد.
خرجت لأسير قليلًا وسمعت صوت ضحكة رقيقة رغم علوها من الغرفة المجاورة وكان الباب شبه مفتوحًا حاولت اختلاس النصر وجدت رجل عجوز في الخمسين ربيعًا من عمره، أمامه صنية بها العديد من الأطباق الذي يحتوى على طعام قليل صحي وفتاة تجلس من ظهرها ولكن لم يكن من الصعوبة أن أعرفها أنها هي…
أخذت من أمامه الصينية وخرجت مسرعة ولم استطع أن أتحرك من أمام الباب وعند خروجها ألتفت عينها بعيني لأول مرة عيون بنية مليئة بالبريق لم يطفئها المرض بعد،شفاة وردية ممزوجة بالقليل من اللون البنفسج وتشققات تعلوها كتعب أرض جرداء في أيام عجاف، جسد نحيل نهشه أنياب المرض ورغم ذلك لم يفقد جماله، بلحظة وقعت الصينية من يدها التي تظهر حدة علامات الابر بها
توترت مع ضحكة خفيفة ونزلنا سويًا نعيد الاطباق إلى مكانها.
ثم أردفت وقالت: أنت مريض ولا جاي تزور حد؟
-جاوبتها ونحن نكمل سيرنا لا نعلم إلى أين.. أنا مريض لسه جاي امبارح
=علشان كده اول مره أشوفك مع ابتسامة قادرة على اشراق شمسي الغائب أنا علياء سرطان مخ وهنا من سنة وأنت..؟
-أنا علي سرطان دم
علياء: تشرفت بيك يا استاذ علي
لم أدرك كم مر من الوقت قضيناه معًا لنكون بهذا القرب الذي تطمئن أمي عليَّ معها وتذهب للراحة وأحضار بعض الاشياء من المنزل.
كانت مريضة ومرضها كل يوم ينهش بجسدها رويدًا ورغم ذلك كلما شعرت بقليل من التحسن تصبح فراشة المستشفى تضحك وتطير من غرفة لأخرى لتقديم العون ومساعدة المرضى تعلمت منها كل شئ جميل لم أكن أتوقف عن مساعدة الآخرين كلما تحسنت حالتي قليلًا.
أنها جرعتي الثانية من الكيماوي لا استطيع النهوض غثيان، ضيق في التنفس، جبل من حديد على صدري لا أتحمل سماع أحد بجواري يتنفس من شدة الضجيج برأسي تبكي أمي من هول صراخي وتأتي علياء وتقترب أرميها أرضًا وأنا أقاوم كل من يقترب مني لا اريد كفى لن أتناول الدواء مرة أخرى وازحف على الأرض حتى أصل إلى دورة المياة غثيان لا يتوقف وقئ مستمر أشعر أن نفسي يتوقف ثواني وروحي تنسحب للأسفل أكره حياتي وأبغض المرض ورغم كل شئ كل مرة أفيق على يد كنقاء قلب الوليد ترافق يدي البغيضة وتحتضنها بعمق أبدي أعلم قبل أن أنظر أنها هي ملاكي الحارس أنها رغم كل شئ لا تتركني
تبتسم كنور الصباح أحاول أن أعتذر ولكنها تسكتني وتضع يدها على فمي
يوم جديد ونسير معًا في الحديقة نتذكر ذكريات طفولتنا نضحك احيانا ونبكي اوقاتًا أخرى لأنها فقدت أسرتها في حادث وهى صغيرة وعاشت مع جدتها التي توفيت بنفس المرض.
كنت اضمها لكي أخفف حزنها ولكن الحقيقة أني من أحتاج حضنها الدافئ
كانت رغم تعبها تتحمل وتبكي وتصرخ بداخلها لم تجعلني أشعر يومًا بألمها وكلما وجدتها أختفت عن الأنظار اعلم جيدًا أنها تتألم
أبحث عنها بجميع الغرف حتى أجدها بعد ساعات بغرفة أحد المرضى تتألم وحيدة بداخل المرحاض أحملها بدموع ساخطة وأضعها بسريرها.
وعند استيقاظها تخفي وجهها عني خجلًا من حالتها، مر ست أشهر وأصبحنا شخصان بجسد واحد لا نفترق أبدًا.
وقرر الطبيب دخولها عملية جراحية لاستئصال الورم وهناك احتمالين لا ثالث لهما إما أن تشفى أو تنتهى حياتها كان قرارًا صعبًا
سهرنا يومها طيلة الليل بحديقة المستشفى وغلبنا النوم تحت القمر، استيقظت على صوتها الحنون وهي تنادى علي يا علي أصحى انت على طول معذبني كده فتحت عينى بتكاسل وقلت لها تتجوزيني..؟
اتسعت حدقة عينيها وأصبحت فاتنة وقالت بصوت ناعم ممزوج بضحكة أنت بتقول أيه؟
أنا دخلا العمليات دلوقتي واحتمال مطلعش تاني وأنت تقول تتجوزيني
كررت الكلمة وأنا أجلس وأمسك بوجهها براحة يدي وأنظر بعينيها بعمق لتعلم مدى جدية كلامي تتجوزيني يا علياء؟
قالت لي انت مجنون بس بحبك طبعًا موافقة..
مع تصفيق حار من ممرضات وأطباء ومرضى المستشفى لأني كنت أخبرتهم ليلة أمس وتمت أمي ومعها علبة قطيفة بها دبلتين
لم تكن تصدق عينيها فكانت توزع ابتسامات وأحضان للجميع.
استعدت لدخول العمليات ولم تترك يدي إلا عن غلق الباب مرت ستة ساعات لم أعرف عنها شيئا لِمَ كل هذا التأخير؟
ذهبت للحديقة أتذكر ضحكاتها وقلبها الطيب كل شئ تغير لم تصبح للزهور بهجة ولا للأشجار لون أخضر جميل حتى المقعد الخشبي أصبح يؤلم جسدي..
أستاذ علي… يا أستاذ علي..
استيقظت ونظرت فإذا ممرضة تبكي ..
لا تقولي لي ما اخاف منه وصرخت بأعلى صوتي لاااا علياء لا تموت سوف أدخلكم السجن جميعًا بسبب الأهمال
أبعدي عني واوقعت الممرضة بعيدًا وهي تناديني أنتظر أرجوك
أستنى ايه موتوني معاها مش عايز أعيش ودخلت إلى الاستقبال أصرخ وانا اضرب كل من يقابلني هاتولي الدكتور وهنا يجد عليا على سرير مغمضة العين زرقاء الوجه والشفاة باردة كليله شتاء قارصه، ازداد صراخه عليااااء متفقناش على كده قومي أنتِ قلتي أنك هتفضلي معايا العمر كله أنا قلتلك أنا هموت قبلك متعمليش كده يا علياء خدوا روحي ادوهالها ومع صرخات ومحاولات لإيقافه آبت بالفشل حتى وقع مغشيًا عليه
مر خمس أشهر، علي بالعناية المركزة يرفض جسده كل أنواع العلاج كأنه استسلم تمامًا للموت
علياء:يا دكتور مفيش امل خالص لإنقاذه
الطبيب:والله يا علياء في حالات لو المريض معندوش إرادة جسده بيرفض اى علاج بتبقى حالات نادرة بس موجودة وحالة علي منهم
علياء:طب تجربة أخيرة ممكن ادخله
الطبيب:يا علياء انتي لسه فايقة من الغيبوبة من شهر ولسه بتكملي علاجك ومناعتك ضعيفة وكل يوم بتدخلي ليه ومفيش نتيجه
علياء:لو سمحت يا دكتور انا حاسه اني السبب وممكن الحب يدي لجسمه الطاقة اللي تخليه حابب يعيش
الطبيب:تمام بس خمس دقايق بس
ترتدي علياء الملابس المعقمة وتدخل إلى علي وتلمس يده وتهمس له أنا بحبك اوي يا علي لو كنت بس صبرت وسمعت الممرضة كنت هتعرف أن العملية نجحت وأني بس في حالة غيبوبه ممكن تطول شويه بس أنا زعلانه منك واعمل حسابك اول ما تقوم هتخانق معاك خناقة كبيرة دايما كنت بقلك اصبر مش بتسمع كلامي وتزرف دمعه تمسحها سريعًا
يا علي أصحى بقى كل يوم تعذبني كده.
تتأمل علياء وجه علي وتجد نظرات زائغة من عينه، تنهض سريعًا لتنادي الطبيب
يا دكتووور علي فتح عينه انا شفته بسرعة
يجري الطبيب مع فريق من الممرضات، لكن عند وصولهم كان صوت صفير جهاز القلب أقوى من صوت صرخات وبكاء الجميع…