القضية دي حيّرت القضاء لدرجة إنها فضلت في المحاكم والتحقيقات أكتر من تلتاشر سنة!
والحكاية كلها بدأت من شقة في واحدة من شقق المعمورة في الإسكندرية...
شقة محدش بيشتريها، ولا حتى بيقرب منها.
ليه؟ لأن كل الناس عارفة إنها "شقة الأشباح"، بسبب الجريمة البشعة اللي حصلت فيها زمان — جريمة قتل أسرة كاملة، اتقال بعدها إن أرواحهم لسه جوه الشقة، مانعين أي حد يدخلها أو يسكُن فيها.
بس يا ترى فعلاً الأشباح هي اللي بتمنع الناس؟ ولا دي مجرد إشاعة...؟
تعالوا أقولكم القصة من البداية خالص.
كان وقتها على المغرب كده، وأنا قاعد في مكتبي في القسم، براجع آخر محضر صلح بين اتنين جيران كانوا متخانقين على ركنة عربية. كنت بقفل الأوراق وبدّيهم يوقعوا، لما فجأة التليفون رن.
ردّيت وأنا باخد نفس طويل من التعب وقولت:
– أيوه، أنا الظابط علاء... مين معايا؟
جالي صوت متوتر بيقول:
– أنا الدكتور محمد... عندنا بلاغ عن حالة تسمم لأسرة بعد أكلة سمك، وعايزين نحرر محضر بالواقعة فورًا.
قلتله بسرعة:
– تمام يا دكتور، ابعتلي العنوان وإنا هاجي للمعاينه.
وفعلاً، ماعداش عشر دقايق، كنت أنا والمجموعة بتاعة العساكر في عربية الشرطة رايحين على المكان — شقة في الدور التاني، في عمارة قديمة في المعمورة.
الجو كان غريب... ساكت زيادة عن اللزوم، والعمارة كلها ضلمة إلا من نور ضعيف جاي من شباك الشقة دي.
طلعنا وفتحلنا الباب واحد عرفت بعد كده أنه البواب، كان وشه مصفر ومرعوب كأنه شاف حاجة مش طبيعية. دخلنا الشقة، وكانت الريحة خانقة — خليط غريب بين ريحة سمك وزفرة موت.
الدكتور كان واقف بيعاين الجثث: راجل وست في أواخر الأربعينات، وبنت في العشرينات واقعين على الأرض، عينيهم مفتوحة.
وفي جنب الأوضة، شاب في أوائل العشرين، باين عليه مصدوم ومش مركز.
قربت من الدكتور وسألته:
– اتأكدت إن الوفاة بسبب التسمم؟
بص على الترابيزة وقال:
– أيوه، دي بواقي الأكلة اللي كلوها قبل ما يموتوا... الفحوصات الأولية بتقول إن فيها نسبة عالية من مبيدات حشرية .
وبعد التحليل المبدئي، واضح إن التسمم هو السبب.
بصيت للشاب وسألت الدكتور:
– أمال ده مين؟
الدكتور قال:
– ده ابنهم، وهو اللي اتصل بينا أول ما لقاهم كده.
رُحت عنده وقولت بهدوء:
– البقاء لله... معاك الظابط علاء.
بصلي وقال بصوت مبحوح:
– ونعم بالله... أنا مش فاهم، والله مش فاهم إيه اللي حصل. كل حاجة كانت كويسة من شوية!
قولتله:
– بعد ما نخلّص المعاينة، محتاج تيجي معانا القسم تجاوب على شوية أسئلة، علشان نفهم اللي حصل بالظبط.
هزّ راسه بالموافقة من غير ما ينطق.
وبعدها رحت للبواب اللي كان بيرتعش من الخوف وقولتله: ياريت تيجي معانا القسم ب ما نخلص
بصلي مخضوض جدا وقالي: ليه يا بيه انا معرفش حاجه انا طلعت مع الإسعاف اشوف فيه ايه وشفت اللي حصل منظر مخيف اوي
قولتله وانا بحط ايدي على كتفه: متقلقش هم كام سؤال وهتروح
وبالفعل، بعد ما خلصنا والمعمل الجنائي صوّر المكان والدكتور أمر بنقل الجثث للمستشفى، وأخد كمان عينات من الأكل والعصير اللي كان على الترابيزة…
رجعنا القسم، وكان الشاب والبواب معانا. أول ما وصلنا، بصيت للبواب وقلتله بهدوء:
– استنى بره شويه، هنسأل ابنهم سؤال وبعدين هتدخل.
رد عليا بصوت واطي:
– أمرك يا بيه.
دخلت المكتب ومعايا الشاب، كان باين عليه التعب والارتباك.
قلتله :
– تحب تشرب قهوتك إيه؟
قال وهو موطي:
– سادة.
بصيت للعسكري وقلت:
– اتنين سادة يا إبراهيم.
ولما العسكري خرج، بصيت ناحيته وسألته بهدوء:
– دلوقتي، عرفني بنفسك الأول.
قال بصوت حزين وهو بيخلع نضارته:
– أنا أحمد الشناوي، سنة تانية كلية تجارة، عندي ١٩سنة.
قعدت أتابعه باهتمام وسألته:
– طيب، احكيلي من الأول كده... إيه اللي حصل بالظبط؟ وإمتى اكتشفت وفاتهم؟
أخد نفس عميق ومسح على وشه وقال:
– أنا كل يوم تلات بروح ألعب كورة في النادي مع صحابي، وبتغدى بره معاهم. في اليوم ده، كانوا كلهم قاعدين على السفره، وأنا قولتلهم إني هنزل ألحق ميعادي كالعادة، وهم عارفين إني يوم التلات باكل بره. نزلت وسِبتهم.
قاطعته وقلت:
– تمام، وبعدين؟ رجعت امتى؟ ولما رجعت كانوا عايشين؟
مد إيده لكوباية الميه اللي على المكتب، شرب منها شوية، وقال وهو صوته بيتهز:
– المنظر كان صعب يا بيه، كلهم واقعين على الأرض... كنت فاكرهم مغمى عليهم، حاولت أهزهم ، بس محدش رد. جريت بسرعة واتصلت بالإسعاف.
قلتله وأنا ملاحظ ارتجاف صوته:
– ولما الإسعاف جات؟
قال وهو بيكتم دموعه بالعافية:
– قالولي إنهم ماتوا كلهم بسبب السمك... والله يا بيه أنا حذرتهم، بس بابا قاللي "سيبها على الله".
قمت من مكاني وقعدت قصاده وقلتله:
– حذرتهم من إيه يا أحمد؟
رد وإيده بترتعش:
– إن السمك الفتره دي مش كويس، وحالات كتير جالها تسمم، والجرايد والبرامج كلها كانت بتحذر الناس متشتريش سمك دلوقتي، بس محدش سمع كلامي. ماما قالتلي إنهم بيجيبوا من مكان مضمون ونضيف.
قلت وأنا بسيبه يكمل:
– تعرف المكان اللي اشتروا منه السمك؟
مسح وشه من العرق وقال:
– لا والله، ماما اللي كانت بتشتريه، بس معرفش منين.
سألته وأنا بقلع الجاكيت:
– بس مش غريبة يا أحمد إنك الوحيد اللي مكلتش من السمك؟
اتوتر وقال بسرعة:
– أنا قولت لحضرتك، أنا بروح كل تلات مع صحابي، ده طبيعي مش حاجة جديدة... والله ما كنت أعرف.
وسكت لحظة، وبص لتحت وقال:
– ياريتني كنت كلت ومت معاهم، أنا هعيش لوحدي أعمل إيه؟
مديت له فنجان القهوة بهدوء وقلتله:
– ربنا يرحمهم يا أحمد، بس لو قدرت تعرف المكان اللي اشتروا منه السمك هتساعد ناس كتير، علشان مايحصلش لحد تاني زي اللي حصل لأهلك.
رفع عينه فيا وقال بانفعال:
– أكيد هسأل، أنا كمان لازم أعرف... علشان اللي عمل كده ياخد جزاؤه.
قعدت تاني وقلتله وأنا بفتح الدفتر:
– طيب، سؤال تاني. مفيش أي حد بينه وبين أهلك مشاكل؟ ممكن يكون بيكرههم أو في بينكم خصومة؟
سكت شوية، وبان عليه التردد قبل ما يقول:
– مفيش غير خالتي... كانت دايمًا في مشاكل مع ماما، كل شوية يتخانقوا ويتصالحوا.
قلت وأنا ماسك القلم:
– وايه الأسباب يا ترى؟
هز راسه وقال:
– مش عارف، كنت بسمع ماما بتحكي لبابا إنها متخانقة معاها، بس ماكنتش بركز. هما كانوا كده دايمًا... يوم خصام، ويوم صلح.
بصيت له شوية وأنا بحاول أقرأ ملامحه، حسّيت إن في حاجه مش عادية...
فيه خوف، بس كمان فيه حاجة متخبية ورا الخوف ده، كأن في سر مش قادر يقوله.
قلتله وأنا بتنهد وبمسك القلم:
– طيب يا أحمد، ياريت تديني رقم موبايل خالتك وعنوانها.
مد إيده في جيبه وطلع موبايله القديم، وقعد يدور شوية وهو بيقول:
– لحظه يا بيه... أهو، ده رقمها، والعنوان في سيدي بشر، شارع العيسوي.
كتبت المعلومات في الدفتر، وبصيت له تاني:
– طيب يا أحمد، بلغت باقي قرايبك أو حد من العيلة بوفاة أهلك؟
رفع راسه فجأة وقال وهو بيحاول يتمالك نفسه:
– لسه يا أفندم... أنا من الصدمة نسيت أقول لحد، كنت تايه ومش مصدق اللي حصل.
بصيت له بتفهم، وقلت بهدوء:
– لازم تبلغهم يا أحمد، دي مسؤولية كبيرة. وياريت كمان تقولهم لو حد فيهم يعرف أي حاجة أو لو في أعداء للعيلة أو مشاكل قديمة، يبلغونا فورًا.
هز راسه وقال بصوت منخفض:
– حاضر يا أفندم... بس أنا كنت عايز أسأل، مش هنستلم الجثث علشان أعمل إجراءات الدفن؟
قلت وأنا برفع سماعة التليفون وببص له بثبات:
– أنا هكلم الدكتور حالًا، هشوف وصل لإيه، لأن هو الوحيد اللي يقدر يحدد إمتى هتستلمهم... ده شغله، وإحنا لازم نمشي بالإجراءات الصح.
وقف قدام الباب وهو باصص ناحية الأرض، وقال:
– طب... أقدر أمشي دلوقتي يا بيه؟
قلت وأنا بشاور له بيدي:
– أيوه، ممكن تمشي يا أحمد، بس اسمعني كويس... ما تسافرش ولا تروح بعيد. لو احتجناك في أي وقت لازم نلاقيك. وأي حاجة تفتكرها، مهما كانت بسيطة، تيجي تبلغنا فورًا.
هز راسه وقال:
– حاضر يا أفندم.
رفعت السماعة واتصلت بالدكتور، وقلت :
– أيوه يا دكتور،.. طمني، وصلتوا لإيه في نتيجة التحاليل؟
قالي:
– النتائج الأولية طلعت، والوضع مش طبيعي خالص...
قلتله بسرعة:
– يعني إيه مش طبيعي؟
قال:
– السمك فيه نسبة كبيرة جدًا من المبيدات الحشرية... أكبر بكتير من الطبيعي. أنا في الفترة اللي فاتت جالي حالات تسمم مشابهة، بس ولا حالة منهم كانت بالكمية دي. فيه ناس اتلحقت في آخر لحظة، وفيه ناس للأسف وصلت بعد فوات الأوان... إنما الحالة دي مختلفة تمامًا .
سألته باستغراب:
– تقصد إيه بالظبط يا دكتور؟
قال وهو متردد، كأنه مش عايز يقول الكلمة اللي في دماغه:
– بصراحة، أنا مش متأكد بنسبة مية في المية... بس على الأغلب اللي اتحط في السمك ده كان بفعل فاعل. يعني النسبة مش ممكن تكون صدفة، دي كمية متعمدة.
سكت لحظة وكمل:
– بس برضه، ما نقدرش نتأكد دلوقتي، ممكن المكان اللي اشتروا منه يكون مزوّد الكمية بالغلط أو في خلل حصل أثناء التخزين.
قعدت أفكر وأنا ماسك القلم، وقلنله:
– تمام، بكده عايزك تأجّل تسليم الجثث شوية، لحد ما نكمل التحقيقات. لازم نعرف إذا كان التسمم حصل بفعل فاعل، ولا مجرد حالة زي باقي الحالات اللي حصلت في الأيام اللي فاتت.
قال وهو بيأكد على كلامي:
– أنا فعلاً كنت ناوي أعمل كده، خصوصًا إن التحاليل محتاجة فحص أعمق، والنتائج الأولية دي ما تكفيش.
سكت لحظة وأنا حاسس إن القضية بدأت تاخد منحنى تاني تمامًا، مش مجرد حادثة أكل فاسد.
قفلنا المكالمه ورنيت على العسكري، وقلتله:
– خلي البواب يدخللي حالًا.
رد العسكري بسرعة:
– حاضر يا بيه، حالًا.





































