داخل إحدى المستشفيات النفسية بمنتصف الليل، صرخة عالية ، سارع الأطباء والممرضات إلى غرفة رقم خمسة حيث حاولت "أمل" الانتحار، فتاة سمراء في الثلاثين من عمرها أحضرها والدها منذ خمس سنوات؛ فقد حاولت الانتحار ثلاث مرات بقطع شريان يدها، فلم يكن أمامه بد من إيداعها بمصحة نفسية؛ لإنقاذ ما بقى من روحها اليائسة، دماء ملأت المكان، ملامح يد تلطخت باللون الأحمر مع شهقة الممرضات؛ فهذه هي المرة الخامسة بداخل المستشفى التي حاولت الانتحار فيها، نجحت الممرضات في إنقاذها المرات السابقة، أما هذه المرة فهل تنجح هي في إنهاء حياة لم تردها يومًا؟ حملوها سريعًا مع استدعاء الطوارئ، سكين بلاستيك مكسور شق طريقه للشريان فقطعه؛ فقد وهن وأصبح من السهل اختراقه بعد المحاولات العديدة لاختراقه سابقًا؛ عندما يضرب اليأس حياتك تصبح شخصًا هشًّا من السهل تحطيمه، تنكسر لتجد نفسك تائهًا بدوامة لا نهاية لها، تريد أن تتخلص من ألم روحك فهو أقوى بكثير من ألم الجسد، تضعف قواك، وتكون حينها الضربة القاضية.
مرت ساعة تلو الأخرى صارعت الموت، ملامح باهتة من ماضٍ مؤلم، سمعت صوتها وهي تصرخ: "لا تتخل عني، تعلم أنني سلمتك نفسي وروحي؛ لأني أحبك.." توقف القلب لثوانٍ كأنها سنوات، اضطراب بغرفة العمليات، محاولات لإنعاش قلبها عدة مرات، أحتاجت لنقل دم، فقد خسرت من دمائها ما هو فوق المعتاد، سارعت الممرضات لإحضار أكياس الدم، فالمريضة جاهدت ضد روحها، وميض دخل عينيها..
"لا أستطع التخلي عن نفسي؛ فأنتِ مني، حاربتُ وأنتِ تعلمين، خسرت وأنتِ اول الشاهدين والآن وجب عليَّ الرحيل.. عادت النبضات زاهدة في الحياة، أنتهت العملية بشق الأنفس مع احتمال عدم استطاعتها تحريك كفها مرة أخرى، مر يومان ولا زالت بغيبوبة، فتحت عينيها فإذ بالظلام عم المكان، هل فقدت البصر أم حل المساء؟!
لم تتذكر حينها ما حدث، لِمَ تشعر بوخز بكفها؟
أغمضت عينيها ؛ فتعبها كان أقوى من أن تفكر وتتذكر ما الذي أوصلها لهذه الحالة؟
أتت إشراقة الصباح على ضي الشمس أعطت أشعتها الذهبيه لها املًا فقدته من سنين. دخلت الممرضة ونظرت إليها بعينين مشفقتين: ألم يكفِ يا أمل؟ لقد تعبت روحك ووهن جسدك من ضياعك.
بابتسامة ممزوجة بألم أجابت: لقد ضعت منذ دهر، وإذا قلت يومًا أني نسيته فهذا معناه أني أشتاق إليه أكثر.
سقطت دمعة من عينيها تحمل شجنًا أصمًّا.
الطبيب: أنا آسف يا أستاذ أحمد ابنتك مستسلمة جدًا.
الأب: وما الحل هل سنفقد الأمل؟
الطبيب: الأمل موجود إن شاء الله، سنحاول قدر إمكاننا، دعنا نفعل ما اتفقنا عليه من شهر مضى عندما تتعافى هذه المرة.
مر شهرٌ وأمل على حالها لا تخرج من غرفتها تتأمل الحديقة من النافذة كل يوم بوجه تعيس، ذكريات مؤلمة تلا حقتها، لا ترى أشجارًا ولا زهورًا خلف النافذة ولكنها الذكريات التي تجعلها تفكر في الانتحار.
"شريف… أنا حامل. لا ترحل أصبحنا اثنين، لا تتركني أخوض التجربة وحدي.."
فتحت عينيها نظرت حولها بعيون زائغة باحثة عن أداة الانتحار القادمة.
مع رنة هاتف قديم يرفع الأب الجوال،
الطبيب: لقد حانت اللحظة يا أستاذ أحمد.
الأب: حسنًا يا دكتور سأكون معه بالمستشفى بعد ساعة من الآن.
دخلت الممرضة لغرفة أمل وجدتها كما هى نظرات زائغة إلى النافذة تارة، وتارة لمحتويات الغرفة.
الممرضة: أمل.. اليوم وافق الطبيب أن تجلسي في الحديقة قليلًا.
تنتبه أمل وذهبت معها بخطوات ثابتة.
جلست على مقعد أمام إحدى الأشجار، وجلست الممرضة بجوارها.
قالت بانفعال وتوتر: أريد أن أشرب.
قامت الممرضة لإحضار الماء.
أسرعت وألتقطت بعض العصي الحادة الصغيرة المتساقطة من فروع الأشجار، وخبئتها بملابسها وجلست كما كانت قبل عودة الممرضة.
وعادت بخيالها لذكريات جعلتها تصر على قرار إنهاء حياتها..
"لا أريد طفلًا يقف في طريق طموحاتي كالعقبة، تخلصي منه واتركيني، سأرحل ولن أعود لا تنتظريني.. لا ترحل، بعدك عني موت، بل أصعب من الموت"
فاقت من ذكرياتها على كف صغير ربت على كفها المطوي بشاش أبيض.
نظرت إليه فإذ هو طفل لم يتجاوز الخامسة من عمره، ذو عيون سمراء واسعة، وابتسامة خفيفة كافية لأن تنير العالم بأسره.
نظرت إليه بتعجب متسائلة: من أنت؟!
مال الطفل برأسه ولا زالت ابتسامته تنير وجهه الأسمر: أنا آدم، هل كفكِ يؤلمك؟
أبتسمت بحزن: ليس أكثر من ألم روحي.
اختفت ابتسامته وأردف قائلًا: أخبرني جدي يومًا أن روحنا تسعد عندما نرى من نحب.
أمل: أنا لا أحب نفسي فكيف يحبني الآخرون؟
آدم: ألا ترين الأشجار والأزهار وحتى الشمس كيف يبتسمون؟
أمل: كيف ترى ذلك؟ إني أراهم يبكون.
آدم: كيف تكونين حزينة، وأنتِ من أنجبتِ السعادة؟
نظرت أمل له بتعجب وتأمل،
ورأت بعينيه طفلًا رضيعًا..
"-يا ابنتي ليس لابنك ذنب لكي تحرميه من حنان أمه.
-تخلى عني والده، وأنا بدوري أتخلى عنه، لا أريده. -ولكن..
-لا تزد، لا أريده، وإذا تركته معي سأقتله وأقتل نفسي.."
وقد أفاقت من هجمة ذكرياتها: من أخبرك بهذا فإنه كلام أكبر منك؟
آدم: جدي أخبرني أنكِ عندما أنجبتِني وهبتِ لي كل السعادة التي بداخل قلبك فلم يتبقَ لديك سوى الحزن.
مد آدم يده لأمل..
آدم: الآن أمسكي يدي، سنخرج معًا وأعطيكِ جزءًا من السعادة التي وهبتِها لي.
أمل: أخاف أن أسقط.
آدم: سأكون سندًا وقت اللزوم.
أمل: ربما أضل الطريق.
آدم: سيكون جدي مرشدنا معًا.
أمل: قد أضعف وأتخلى عن حياتي.
آدم: ستكونين أقوى ما دمت تتمسكين بيدي.
أمل: وإذا تخليت أنت عني.
آدم: هل تستطيع السعادة أن تتخلى عن روحها؟
أبتسمت أمل وشعرت لأول مرة منذ سنين أن فؤادها يرى ضحكة الشمس وسعادة الأشجار ورقص الزهور،
مدت يدها ومسكت كفه الصغير بقوة وسارت معه بالحديقة، وسقطت العصي من ملابسها دون أن تشعر مع سرده كل القصص والكتب التي قرأها له جده والسعادة التي تنتظرها بالخارج والأماكن المؤجلة منذ سنين لكي يستمتعا بها معًا.
مرت ثلاثة أشهر لم تحاول أمل فيها الإقدام على الانتحار، بل كان كل يوم هو بمثابة أمل وحياة جديدة تنتظر فيها آدم، السعادة المخلوقة على هيئة طفل صغير.
ابتسامته وكلامه المنمق الذي اكتسبه من سماع القصص من جده أعطى روحًا جديدة لأمل،
واليوم موعد خروجها من رحم التعاسة لميلاد جديد، ستخرج من ضيق الظلام لراحة النور.
"سيمسك يدي ولا يفارقني، سيغمرني بسعادته،
ستمدني طاقته بأنغام حياة تمنيت دومًا أن أعيشها" فاقت من شرودها على صوت آدم:
هيا بنا يا أمي نكتشف العالم السعيد سويًّا..