بأمي عرفت الله الذي أحب .
كانت أمي رحمها الله، تخاف علينا كما تخاف الشاة الذئب على نعاجها.
ولذلك أغلقت علينا الابواب.
أفواه خمس وأب لايعرف في الدنيا الا بيته ومسجده والطريق إلى عمله .
إذاعة القرآن الكريم هي النفحة التي نستقي منها صغارا، آي الذكر الحكيم .
لم تجرؤ احدانا على إغلاقها. ومن تفعل تنهرها الأخرى مرددة : أستغفر الله العظيم. أتغلقين على كلام الله .
نظرت ذات يوم إلى هذا المذياع الأسود الصغير. وقلت لأمي: هل يسكن الله هذا الصندوق الاسود .
فقالت: بل الله يسكن السموات.
ووضعت يدها على صدري وقالت: ويسكن هنا وأشارت إلى قلبي .
ومن يومها وكلما أردت الحديث معه أضع يدي على قلبي .
علمتني الصلاة إذ كنت كبيرتها وتوليت أنا تعليم أخوتي البنات بعد أن قامت بتحفيظي الفاتحة وبعض قصار السور. كنت أنذاك في السادسة من عمري و أخي مازال صغيرا.
عندما بدأ يمشي كان يرافق أبي إلى المسجد. أتبعهما ببصري حتى باب المسجد. كانت روحي تلبس حجابا وتتبعهما أملا في أن أنال هذا الشرف. ولم تسلم أذنا أمي من سماع الكثير من الأسئلة حول لماذا المساجد للرجال والاولاد وليست لنا نحن النساء والبنات؟! فكانت تجيبني حينا، بأميتها الواعية وتتذمر أحيانا من أسئلتي التي لا تفرغ. ولكي تتخلص من هذه الأسئلة التي لا تنتهي وبعد إستشارة أبي قررت أمرا أسعدني وأخوتي كثيرا .
ذات يوم .. سمحت لنا أن نتعثر في ثوب طفولتنا ومن الباب الخلفي للبيت.
أخرج وخلفي أختين، يصغرنني بأعوام قليلة؛ لنحفظ القرآن . لأول مرة أرى المسجد من الداخل. الحصير الملون الذي كان يترك أثرا على أقدامنا نتحسسها بسعادة عندما نعود إلى البيت .
الإتساع والمأذنة التي عرفت بعدها أنها مكان يقف فيه الشيخ؛ لترديد الآذان الذي كان يتردد خمس مرات في بيتنا.
كان الموقف مهيبا، فأنا أدخل بيت الله؛ لأحفظ آياته.
تلجلجت قدمي وأنا اعبر العتبة الحجرية بعد أن صعدت عشر درجات؛ لأقف على بابه الواسع الذي فتح على مصراعيه .
لا انسى حتى الآن دقات قلبي المتسارعة وعيناي التي تلتهم كل شئ .
دخلت وأختاي تتمسكان بردائي الفضفاض، حتى كادتا أن تخترقاه، لتلتحمان بي .
وجلست وهما فوقي أزحتهما، ليجلسا بجواري. تعلقت عيناي بوجه الشيخ أتتبع ما ترسمه شفتاه من كلمات. تعبران إلى أذني مرورا لعقلي الذي يدون بكل دقة.
بدأت الطمأنينة تسري إلى قلوبنا عندما بدأ الشيخ يقرأ الفاتحة ونحن نردد خلفه.
الشيخ رجل شديد، لايتورع عن ضرب من لايحفظ وما كنت لأسمح بأن تقرب أخوتي يد العقاب. فكان الكُتاب يمتد في البيت لساعات طويلة .
ومن تنام منهن أضربها، فأن أضربها أنا، خير من أن يضربها رجل غريب .
في احدى المرات غضب الشيخ غضبا شديدا، من أحد الأولاد الذي تسلل من خلفه.
كنا صغارا البنات في جانب والاولاد في آخر .
فأخذ القلة الفخارية التي كانت بجواره وضرب بها الولد على رأسه .
كانت فارغة ولله الحمد ولذلك كسر فمها فقط وجرى الولد يعوي كجرو صغير .
في اليوم التالي عاد بجرح في رأسه ومن وقتها وعيناه لا تبرحان القلة وجسده ملتصق بالأرض لايتحرك إلا للخروج بعد الإنتهاء.
وضع كل منا يده على فمه، خوفا من أن تتسلل إبتسامة فيصطادها الشيخ بعيني الصقر التي لا تخفى عنها خافية. وعرفنا بعدها مصير من يخطئ في شئ .
مع الوقت وقدرتي الكبيرة على الحفظ السريع حتى أنني كنت أحفظ الآيات مع ترديد الشيخ ولا أحتاج إلى تكرارها. ومعرفته بما أبذله من جهد مع أخوتي. قربني الشيخ وتغيرت معاملته معي .
وجعلني أقوم بمساعدته في تسميع الماضي من السور للبنات الصغيرات .
وكان يأتي عقابي عندما كان يقسم أن يضربهن و أنا أمسك أيديهن حتى لا تتفلت .
لم يدرك أن تلك العصا كانت تنزل على قلبي حتى رأي دموعي فأعفاني من هذه المهمة.
لم نستمر في الكتاب طويلا فقد انتقلنا إلى بيت أخر وأخذتنا المدرسة وانقطع الحفظ ولكن ظل ما حفظته من أجزاء القرآن الستة راسخا في عقلي .
ومن وقت لآخر أعاود قراءتهم . وظل هاجس الحفظ يراودني فكان لي شيخا حتى بعد زواجي بعدة أشهر وافق زوجي أن أذهب وأكمل .
تعوقني الظروف فأنقطع ثم أعود .
ورغم عدم استطاعتي إتمام حفظه إلا أنه لدي قرآني الصغير الذي أطبقه في حياتي وقد حل لي الكثير من المشكلات. في هذه الآيات .
قوله تعالى ( ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم) وقوله تعالى( لو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك )
وقوله تعالى( قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا)
أنقذني قرآني الصغير في كثير من مناحي الحياة
وتعلمت منه كيف أتعامل مع غيري !
رباني كما لم يربني أبي وأمي وحفظته لأولادي منهم من أتم حفظه ومنهم من يسير كأمه بقرآنه الصغير .
وفي عملي كمدرسة للبنات، كان ما حفظته وطريقة قراءتي الصحيحة عونا لي وخاصة في حصص التربية الدينية.
هذا ما فعله القرآن على المستوى الشخصى ولو تركت العنان لقلمي لما كفتني الصفحات أما على مستوى الكتابة فلم تفدني دراسة اللغة العربية في كلية الآداب كما أفادني القرآن .
كم كبير من المفردات والصور والتراكيب اللغوية التي يحفل بها وتستدعيها ذاكرتي وأنا أكتب والكثير من المواقف والقصص التي تثقل قلمي وتمنحني مساحة أكبر للتعبير.
أؤمن يقينا أن القرآن ليس كلاما يقرأ أو كتابا نحفظ به أنفسنا ولكنه كتاب بين دفتيه حياة لمن أراد .
وأنه يمنحك ما تريد ولكن عليك أولا أن تعرف كيف تبحر فيه؟ وتجمع ما شئت من لآلئ .