لقد كانت و ما تزال الرواية و القصة القصيرة على مر الزمن تقدمان نماذج رائعة من تفاعل الكاتب مع محيطه، و كذلك من تفاعل القارئ معهما كجنسين أدبيين يحققان المتعة و الثقافة، و يحرضان الوعي و مساحة التفاعل مع الواقع لدى هذا القارئ، و بشكل يكاد يشمل كل من يستطيع أو يتقن القراءة، حتى و لو لم يمتلك القدر الكافي من المعلومات و القواعد اللغوية و النحوية و البلاغية، لذلك ما يزال هذان الجنسان السرديان يهيمنان على ساحة الأدب و يفرضان وجودهما بقوة، على عكس الشعر، الذي بتنا نرى توجهاً واضحاً فيه نحو سيطرة شعر التفعيلة و الشعر الحر و النثر الشعري على القصيدة العمودية التقليدية.
و حين ظهر فن القصة القصيرة جدا، أو ما يحب البعض تسميته السرد الوجيز أو الومضة....الخ، من هذه التسميات التي اهتمت بالمسمى ربما بشكل أكبر من اهتمامها بالمضمون، حين ظهر هذا الجنس استبشر القراء بظهور جنس يلائم ما يسمى بعصر السرعة، حيث لا يتوافر الوقت الكافي للقارئ العادي، ليقرأ رواية أو حتى قصة قصيرة في بعض الأحيان، وشعروا بنهم شديد نحو قراءة ما يغني ويسمن في أقل السطور، و تطلعوا إلى جنس يعبر خير تعبير عن حياتهم و أحلامهم و معاناتهم و شغفهم، على أن يكون برقياً وامضاً، قد يقرؤونه في حافلة أو في محطة أو حتى أثناء سيرهم إلى العمل، ليشعروا أنه معهم في كل لحظة، يقارب حياتهم في كل نبضة.
و قد حدث فعلاً ما يقارب هذا في الأدب الغربي، أما في الأدب العربي فكان الأمر مختلفاً و مؤسفاً، بل لقد أضحى أمراً مقلقاً و مخيفاً، فقد غرق هذا الجنس بداية في عدد لا حصر له من الكتاب، ممن يجيد أو لا يجيد أبسط قواعد اللغة و البلاغة، ثم إنه تم تحويله من فن الاختزال و التكثيف و الاختصار، إلى كمين من الغموض و التلغيز و التنجيم، و حتى يحافظ الدائبون على هذا النمط و يحفظون مكانتهم كروّاد في هذا الجنس، دعوه فناً نخبوياً، فأية قيمة سيعطيها هذا الفن النخبوي لمرتاديه قبل أن يعطيها للقارئ في الشارع العريض؟
يا مبدعين لا ترهقوا القارئ...لا تستخفوا بعقله فتكتبوا الأحاجي و الألغاز، ثم تطلبوا منه أن يستشعر عظمة ما تكتبون.
و لا يقتصر هذا البلاء على كاتبيه، بل إن البلاء الحقيقي في المتنطعين ممن يتحفون الشارع الأدبي بقراءات نقدية- تزيد الطين بلة- كما يقال، و يظهرون أنهم قد بَصُرُوا بما لم يبصر به الآخرون- فما أشبههم حينئذ بالسامريّ و عجله ذي الخوار- و هم لا يفتؤون يدّعون أنه على القارئ استيعاب ما في تلك النصوص من خيال و غرائبية و تحديث و قفز على ما سبق، و كأن هذا لم يكن ديدن كل الكتاب فيما سلف و ما لحق على مر العصور، و لكنهم لم يعلموا أن الفرق شاسع بين من يحسن توظيف تلك المهارات في خلق نص ينتهي بالقارئ إلى رسالة أو فكرة أو قصة أو حكاية، و بين من يكتفي برمي تلك الأحاجي، ثم يدبر مطالباً القارئ أن يفزع إلى تأويل ما كتب، و أن يكتب نصه الموازي، و أما من لا يفعل ذلك فإنه ليس من الأدب و الخيال و الغرائبية في شيء.
أيها الكتاب لا ترهقوا القارئ، و لا ترهقوا هذا الجنس الذي لو تم توظيفه سردياً بشكل صحيح، سيكون له علو كعب على باقي الأجناس الأدبية.
أيها الكتاب لا تقتلوا هذا الوليد البهي في مهده.