من أوائل روايات "ديستوبيا" في القرن العشرين، رواية "نحن" للكاتب الروسي يفغيني زامياتين التي نشرت عام 1926 التي تتحدث عن أحداث تقع في عالم من المستقبل.
"ديستوبيا" أو أدب "المدينة الفاسدة" فهو عالم وهمي ليس للخير فيه مكان، يحكمه الشر المطلق، ومن أبرز ملامحه الخراب، والقتل والقمع والفقر والمرض، باختصار هو عالم يتجرد فيه الإنسان من إنسانيته يتحوّل فيه المجتمع إلىٰ مجموعة من المسوخ تناحر بعضها بعضاً.
وكلمة "ديستوبيا" التي تعني باللغة اليونانية المكان الخبيث وهي مكان أو بلد تخيلي حيث كل شيء مزعج أو سيء وعادة ما يكون ضمن نظام شمولي أو في وضع بيئي سيء، على عكس "يوتوبيا" التي تعني المكان الفاضل.
ويعتبر أدب "ديستوبيا" أحد المذاهب الادبية الأساسية والقديمة مثل أدب الطغيان أو أدب المقاومة.. وما حدث من إخفاقات في العالم العربي وبالأخص منها ما بعد الربيع العربي، جعل أدب "ديستوبيا" يطفو من جديد على الساحة العربية، وقد تبنى الملتزمون بهذا الأدب تصنيف أدب المدينة الفاسدة لفهم الماَسي التي نعيشها في وقتنا الحاضر.
واستطاع أدب "ديستوبيا" أن يصبح من كلاسيكيات الأدب العالمي. وقد انتشرت هذه الثيمة/ الفكرة بشكل أكبر، واستطاع عدد من الروايات العالمية المعتمدة على ثيمة "ديستوبيا" من الوصول إلى شاشات السينما.
تعتبر رواية “آلة الزمن” لجورج ويلز التي صدرت في أواخر القرن التاسع عشر وتحديداً في عام 1895، من أولى روايات"ديستوبيا"،التي عكست صورة شديدة القتامة عن المستقبل.
وتسلط الرواية الضوء على مستقبل البشرية المظلم نظراً لاتساع الهوة بين الأغنياء والفقراء، حيث سيظهر جنسان من البشر هما "الإيلوي" و"المورلوك". إنهما مجتمعان ينحدران من أصل بشري واحد، بيْد أنهما مختلفان تمام الاختلاف وإن جمعت بينهما رابطة غريبة. فالإيلوي جنس متحضر نسبياً يعيش عيشة آمنة ينعم بثمار الأرض وخيراتها، بينما يعيش المورلوك تحت سطح الأرض في شقاء من دون أن يبصروا نور الشمس. ويعيش مجتمع المورلوك على افتراس مجتمع الإيلوي.
ومن أوائل روايات "ديستوبيا" في القرن العشرين، رواية "نحن" للكاتب الروسي يفغيني زامياتين التي نشرت عام 1926، التي تتحدث عن أحداث تقع في عالم من المستقبل حيث شيدت معظم هذه الحضارة بشكل شبه كامل من الزجاج بحيث يمكن للحكومة الواحدة أن تتجسس على الجميع بشكل أكثر سهولة.
وفي هذه الرواية تختفي الخصوصية ويلبس الجميع نفس الملابس ويسيرون في خطوات مع بعضهم البعض وجمعيهم مجرد أرقام. الذكور يملكون أعداداً فردية مسبوقة بحرف ساكن والإناث تملكن أرقاماً مسبوقة بحرف علة.
وقد كان لهذه الرواية تأثير كبير على جورج أورويل في رواية "1984" وعلى الكاتبة الروسية آين راند في روايتها "ترتيلة".
بعدها جاءت رواية “عالم جديد شجاع” لأدولف هكسلي التي نشرها عام 1932، التي تتناول قضية فلسفية مهمة تتمثل في الخيار بين الحرية والسعادة. وتعكس مخاوفه من هيمنة العلم على الإنسان إلى الحد الذي يفقده حريته.
يصور هكسلي مجتمعاً يستخدم هندسة الجينات والاستنساخ للسيطرة على الأفراد، يولد الأطفال كلهم بهذه الطريقة ويصممون لينتموا إلى إحدى الفئات الاجتماعية الخمس المحددة: النخبة، التنفيذيون، الموظفون، وفئتا المخصصين للأعمال الشاقة في المجتمع. وسميت هذه الفئات حسب الأبجدية اليونانية ألفا، بيتا، غاما، دلتا، ابسلون.
وتعتبر رواية "1984" لجورج أورويل التي كتبها عام 1949، من أهم روايات "ديستوبيا" السياسية وقد اختارتها مجلة "التايم" الأميركية كواحدة من أفضل مئة رواية مكتوبة بالإنكليزية منذ العام 1923 وحتى الآن، وتمت ترجمتها إلى 62 لغة؛ حيث تصور الرواية دولة شمولية غازية عظمى.
تتمحور رواية "1984" حول شخصية القائد “الأخ الأكبر”، حيث تسيطر هذه الشخصية على الناس والبلدة وتظهر في صور مؤطرة، وبوسترات تُعلَّق في كل مكان تحمل وجه الأخ الأكبر وعبارة “الأخ الأكبر يراقبك!”. كما توجد شاشات في كل منزل قد يطل عليك منها وجه الأخ الأكبر في أي لحظة، مخاطباً الشعب بأمور عامة أو خاصة.
في رواية أورويل، تختفي المشاعر والأحاسيس ويظهر الناس كأنهم أجساد بائسة تتحرك وفق خطة معينة وهدف معين، وهو إرضاء الأخ الأكبر، كما أن الحب أمر محرم، والزواج والإنجاب أمران مسيّسان تماماً، أي أن الإنجاب لا بد أن يكون بنيّة وهدف خدمة الأخ الأكبر والحزب.
ومن ضمن الأدب الديستوبي رواية "فهرنهايت 451" لـ"راي برادبوري" التي تتناول مستقبلاً تحظر فيه الكتب تمامًا ويمنع اقتناءها وتحرق عند إيجادها، فالحكومة تسيطر على شعبها من خلال الحفاظ على حالة مستمرة من الخوف من خلال معارك تشعلها حتى الموت؛ عالم جديد جريء، حيث يتم وضع السكان تحت طائفة محددة من التوزيع النفسي.
وتتحدث الرواية عن موضوع الحجب والمنع والحد من التفكير. وجهة نظر الكاتب مختلفة عن ذلك، فهو يعد عمله كاحتجاج على تأثير التلفزيون على الواقع البشري مستقبلاً. نشرت الرواية عام 1953 وتعد من الكتب المهمة في الأدب الأميركي.
Site Logo
"الديستوبيا"
من أوائل روايات "ديستوبيا" في القرن العشرين، رواية "نحن" للكاتب الروسي يفغيني زامياتين التي نشرت عام 1926 التي تتحدث عن أحداث تقع في عالم من المستقبل.
"ديستوبيا" أو أدب "المدينة الفاسدة" فهو عالم وهمي ليس للخير فيه مكان، يحكمه الشر المطلق، ومن أبرز ملامحه الخراب، والقتل والقمع والفقر والمرض، باختصار هو عالم يتجرد فيه الإنسان من إنسانيته يتحوّل فيه المجتمع إلىٰ مجموعة من المسوخ تناحر بعضها بعضاً.
وكلمة "ديستوبيا" التي تعني باللغة اليونانية المكان الخبيث وهي مكان أو بلد تخيلي حيث كل شيء مزعج أو سيء وعادة ما يكون ضمن نظام شمولي أو في وضع بيئي سيء، على عكس "يوتوبيا" التي تعني المكان الفاضل.
ويعتبر أدب "ديستوبيا" أحد المذاهب الادبية الأساسية والقديمة مثل أدب الطغيان أو أدب المقاومة.. وما حدث من إخفاقات في العالم العربي وبالاخص منها ما بعد الربيع العربي، جعل أدب "ديستوبيا" يطفو من جديد على الساحة العربية، وقد تبنى الملتزمون بهذا الأدب تصنيف أدب المدينة الفاسدة لفهم الماَسي التي نعيشها في وقتنا الحاضر.
واستطاع أدب "ديستوبيا" أن يصبح من كلاسيكيات الأدب العالمي. وقد انتشرت هذه الثيمة/ الفكرة بشكل أكبر، واستطاع عدد من الروابات العالمية المعتمدة على ثيمة "ديستوبيا" من الوصول إلى شاشات السينما.
تعتبر رواية “آلة الزمن” لجورج ويلز التي صدرت في أواخر القرن التاسع عشر وتحديداً في عام 1895، من أولى روايات"ديستوبيا"،التي عكست صورة شديدة القتامة عن المستقبل.
وتسلط الرواية الضوء على مستقبل البشرية المظلم نظراً لاتساع الهوة بين الأغنياء والفقراء، حيث سيظهر جنسان من البشر هما "الإيلوي" و"المورلوك". إنهما مجتمعان ينحدران من أصل بشري واحد، بيْد أنهما مختلفان تمام الاختلاف وإن جمعت بينهما رابطة غريبة. فالإيلوي جنس متحضر نسبياً يعيش عيشة آمنة ينعم بثمار الأرض وخيراتها، بينما يعيش المورلوك تحت سطح الأرض في شقاء من دون أن يبصروا نور الشمس. ويعيش مجتمع المورلوك على افتراس مجتمع الإيلوي.
ومن أوائل روايات "ديستوبيا" في القرن العشرين، رواية "نحن" للكاتب الروسي يفغيني زامياتين التي نشرت عام 1926، التي تتحدث عن أحداث تقع في عالم من المستقبل حيث شيدت معظم هذه الحضارة بشكل شبه كامل من الزجاج بحيث يمكن للحكومة الواحدة أن تتجسس على الجميع بشكل أكثر سهولة.
وفي هذه الرواية تختفي الخصوصية ويلبس الجميع نفس الملابس ويسيرون في خطوات مع بعضهم البعض وجمعيهم مجرد أرقام. الذكور يملكون أعداداً فردية مسبوقة بحرف ساكن والإناث تملكن أرقاماً مسبوقة بحرف علة.
وقد كان لهذه الرواية تأثير كبير على جورج أورويل في رواية "1984" وعلى الكاتبة الروسية آين راند في روايتها "ترتيلة".
بعدها جاءت رواية “عالم جديد شجاع” لأدولف هكسلي التي نشرها عام 1932، التي تتناول قضية فلسفية مهمة تتمثل في الخيار بين الحرية والسعادة. وتعكس مخاوفه من هيمنة العلم على الإنسان إلى الحد الذي يفقده حريته.
يصور هكسلي مجتمعاً يستخدم هندسة الجينات والاستنساخ للسيطرة على الأفراد، يولد الأطفال كلهم بهذه الطريقة ويصممون لينتموا إلى إحدى الفئات الاجتماعية الخمس المحددة: النخبة، التنفيذيون، الموظفون، وفئتا المخصصين للأعمال الشاقة في المجتمع. وسميت هذه الفئات حسب الأبجدية اليونانية ألفا، بيتا، غاما، دلتا، ابسلون.
وتعتبر رواية "1984" لجورج أورويل التي كتبها عام 1949، من أهم روايات "ديستوبيا" السياسية وقد اختارتها مجلة "التايم" الأميركية كواحدة من أفضل مئة رواية مكتوبة بالإنكليزية منذ العام 1923 وحتى الآن، وتمت ترجمتها إلى 62 لغة؛ حيث تصور الرواية دولة شمولية غازية عظمى.
تتمحور رواية "1984" حول شخصية القائد “الأخ الأكبر”، حيث تسيطر هذه الشخصية على الناس والبلدة وتظهر في صور مؤطرة، وبوسترات تُعلَّق في كل مكان تحمل وجه الأخ الأكبر وعبارة “الأخ الأكبر يراقبك!”. كما توجد شاشات في كل منزل قد يطل عليك منها وجه الأخ الأكبر في أي لحظة، مخاطباً الشعب بأمور عامة أو خاصة.
في رواية أورويل، تختفي المشاعر والأحاسيس ويظهر الناس كأنهم أجساد بائسة تتحرك وفق خطة معينة وهدف معين، وهو إرضاء الأخ الأكبر، كما أن الحب أمر محرم، والزواج والإنجاب أمران مسيّسان تماماً، أي أن الإنجاب لا بد أن يكون بنيّة وهدف خدمة الأخ الأكبر والحزب.
ومن ضمن الأدب الديستوبي رواية "فهرنهايت 451" لـ"راي برادبوري" التي تتناول مستقبلاً تحظر فيه الكتب تمامًا ويمنع اقتناءها وتحرق عند إيجادها، فالحكومة تسيطر على شعبها من خلال الحفاظ على حالة مستمرة من الخوف من خلال معارك تشعلها حتى الموت؛ عالم جديد جريء، حيث يتم وضع السكان تحت طائفة محددة من التوزيع النفسي.
وتتحدث الرواية عن موضوع الحجب والمنع والحد من التفكير. وجهة نظر الكاتب مختلفة عن ذلك، فهو يعد عمله كاحتجاج على تأثير التلفزيون على الواقع البشري مستقبلاً. نشرت الرواية عام 1953 وتعد من الكتب المهمة في الأدب الأميركي.
ومن الروايات التي اصطبغت بطابع دستوبياوي رواية "الرجل الهارب" لستيفن كينغ التي نشرت عام 1985، حيث تتحدث الرواية عن أحداث تحصل في عام 2025 في الولايات المتحدة الأميركية حيث لم تعد كما كانت بل أصبغها بطابع ديستوبياوي تماماً، فالاقتصاد منهار، ومعدلات الجرائم والعنف منتشرة بكثرة، والجو فاسد وملوّث.
وتسرد الرواية عالماً قاسياً انقسم فيه الناس إلى فريقين: فقراء منهزمين، وأغنياء قساة القلوب ساديين يتلذذون بتعذيب الأفقر منهم، حتى أنهم يقيمون حفلات لقتل الفقراء من أجل إشباع رغباتهم السادية. يعيش ريتشارد في مجتمع الفقراء، ويرعى أسرة معتلة، فزوجته ضعيفة، وابنته تعاني مرضاً مزمناً، فيحاول ريتشارد التنقل بين الوظائف بحثاً عن المال، ولكن المال لا يأتيه إلا بظلم نفسه أو بظلم غيره، فلا يثبت في أية وظيفة بسبب اعتباراته الأخلاقية، والتي لم تصمد طويلًا.
"ديستوبيا" أو أدب "المدينة الفاسدة" فهو عالم وهمي ليس للخير فيه مكان، يحكمه الشر المطلق، ومن أبرز ملامحه الخراب، والقتل والقمع والفقر والمرض، باختصار هو عالم يتجرد فيه الإنسان من إنسانيته يتحوّل فيه المجتمع إلىٰ مجموعة من المسوخ تناحر بعضها بعضاً.
وكلمة "ديستوبيا" التي تعني باللغة اليونانية المكان الخبيث وهي مكان أو بلد تخيلي حيث كل شيء مزعج أو سيء وعادة ما يكون ضمن نظام شمولي أو في وضع بيئي سيء، على عكس "يوتوبيا" التي تعني المكان الفاضل.
ويعتبر أدب "ديستوبيا" أحد المذاهب الادبية الأساسية والقديمة مثل أدب الطغيان أو أدب المقاومة.. وما حدث من إخفاقات في العالم العربي وبالاخص منها ما بعد الربيع العربي، جعل أدب "ديستوبيا" يطفو من جديد على الساحة العربية، وقد تبنى الملتزمون بهذا الأدب تصنيف أدب المدينة الفاسدة لفهم الماَسي التي نعيشها في وقتنا الحاضر.
واستطاع أدب "ديستوبيا" أن يصبح من كلاسيكيات الأدب العالمي. وقد انتشرت هذه الثيمة/ الفكرة بشكل أكبر، واستطاع عدد من الروايات العالمية المعتمدة على ثيمة "ديستوبيا" من الوصول إلى شاشات السينما.
«1984» وسنوات أخرى: 8 روايات من أدب الديستوبيا
روايات من أدب الديستوبيا: 1984 — جورج أورويل، عالم جديد شجاع — ألدوس هكسلي
روايات من أدب الديستوبيا: 1984 — جورج أورويل، عالم جديد شجاع — ألدوس هكسلي
في مكان ما من العالم هناك نظام قمعي يعاني الناس بكل الطرق معه، اقتصاديًا واجتماعيًا وسياسيًا، في مكان آخر، الأمور مختلفة تمامًا وهناك رخاء ورفاهية لا توصف، لكن بلا دفء إنساني. والمشهد الثالث هو لعالم مليء بالأضواء والمسابقات والدعاية المبهرة بلا محتوى حقيقي، والجماهير تهتف بجنون لبطلة تليفزيون واقع – كارداشيان أو من شابهها – أو مباراة لإحدى الرياضات. الآن، لقطة أخرى لجمهور يتابع خطبة لسياسي ما يحمسّهم بأنه سيمزق المخالفين له تمزيقًا، فيهتفون بحياته وحياة الحزب وينتخبونه بأغلبية ساحقة رغم الأصوات العاقلة التي تندد بما يحدث.
لا يبدو تصوّر هذا صعبًا؛ صحيح؟ لكنني في الحقيقة لم أكن أتكلم عن حاضرنا المشتعل، بل كنت أصف مشاهد من عدة روايات تندرج تحت نوع أدبي يعرف بـ «الدستوبيا»، كُتبت منذ قرن أو أقل، لكنها كانت أشبه بالنبوءات. وللأسف، فإن نجاح الروايات في التنبؤ بهذه الدقة يعني شيئين، أولًا، أن العالم يصير إلى الأسوأ، وأن الأدباء كانوا محقين في تشاؤمهم، وثانيًا، أن كُتَّاب الخيال العلمي هم متنبئو العصر الحديث.
لطالما تكلم البشر عن المدينة الفاضلة/اليوتوبيا، منذ بدء التاريخ الفكري تقريبًا. مدينة أفلاطون الفاضلة كانت أول تصور للمدينة المثالية، ثم صاغ توماس مور المصطلح في القرن السادس عشر، اليوتوبيا، أو الطوبيا، وتوالت التصورات الأدبية والفلسفية التي تصف اليوتوبيا التي يعيش فيها البشر بسلام ويتمتعون بالسعادة والرخاء. لكن هناك نوعًا آخر من القصص وجد طريقه إلى الأدب في وقت متأخر نوعًا ما، وهو قصص الديستوبيا.
وقصص «الديستوبيا Dystopia» – أي نقيض اليوتوبيا – تتحدث عن المستقبل، لكن على عكس اليوتوبيا، تقدم الديستوبيا تصورًا مظلمًا جدًا سيفقد البشر فيه الكثير، حريتهم، مشاعرهم، مواردهم، أو ربما على العكس، يسود الرخاء الظاهري – يوتوبيا – لكن هناك انحطاطًا كارثيًا في جانب من جوانب الحياة. وتحكمهم في الغالب حكومة شمولية أو طبقة مسيطرة تحرص على أن يكون هناك خواء تام ومحو للفردانية والتعاطف وأي مشاعر بشرية أخرى. الدستوبيا تهدف لاستشراف المستقبل، لتحذيرنا من ظواهر قائمة بالفعل قد يؤدي عدم اتخاذ موقف أخلاقي وعملي حيالها إلى تحولها لتلتهم عالمنا بكامله والأسوأ أننا لن نشعر بهذا.
وهي من أكثر الأنواع رواجًا بين أنواع الخيال العلمي، فهي تثير الحماسة والرعب أحيانًا، بالإضافة إلى أنها غالبًا تجمع بين نوعين أو أكثر من الأدب، الخيال السياسي والخيال العلمي. وتوظّف للنظريات العلمية مع نظرة نقدية للأخلاقيات التي تصاحب التقدم وما يفرضه من مستجدات.
ويجب أن نفرق بين الديستوبيا وبين نوع آخر من أدب الخيال العلمي السوداوي، ألا وهو أدب «نهاية العالم Apocalypse» الذي يختص بكارثة هائلة، مثل الكوارث الطبيعية والبيولوجية أو الحروب النووية. الديستوبيا لا تصف نهاية العالم، إنما نهاية الإنسانية. العواطف البشرية، الحرية، الاختيار والتسامح، وهذا مرعب حقًا في زمننا الحالي لأننا لسنا في حاجة لروايات دستوبية لتخبرنا بهذا، فنحن نعيشه بالفعل.
موجة الديستوبيا الأولى: الثورة الصناعية
تعتبر أول رواية دستوبية يمكن الرجوع إليها هي رواية الأديب الإنجليزي جوزيف هول «العالم الآخر والعالم ذاته Mundus alter et idem» التي نُشرت عام 1607م، وهي تصف عالمًا مستقبليًا مقسمًا إلى مقاطعات تعبر كل منها عن رذيلة من رذائل البشر.
لكن موجة الكتابة الموسعة عن الديستوبيا بدأت مع الثورة الصناعية في أوروبا وظهور طبقة العمال الذين يعيشون ويعملون في أسوأ ظروف ممكنة، وتزداد الهوة اتساعًا بينهم وبين الطبقة الأرستقراطية المُرفهة، مما دفع بالكتاب إلى التخلي عن أحلامهم الوردية بمستقبل أفضل، أكثر رخاءً وسعادة بفضل التكنولوجيا، وتوقُّع العكس تمامًا.
كانت البداية مع رائعة ويلز «آلة الزمن». من الأعمال الأخرى الشهيرة لهذه الفترة، رواية «باريس في القرن العشرين» لرائد الخيال العلمي الفرنسي جول فيرن، و«جمهورية المستقبل» لآنا باومان، و«العقب الحديدي» لجاك لندن.
الموجة الثانية: دستوبيا ما بعد الحرب
أدت الحرب العالمية الأولى، وتلتها الثانية، إلى فقدان الكُتاَّب الأمل في مستقبل البشرية، وصاحب هذا يأس مماثل في الفن والأدب والفلسفة فظهرت النزعات الوجودية والعدمية، وكانت هذه المرحلة هي مرحلة ازدهار الكتابات الديستوبية. وتميز كتاب هذا الجيل بالتشاؤم الشديد بشأن المستقبل. من هؤلاء: راي بردابوري، آرثر كلارك، وروبرت هاينلاين.
ولا تنفك الكتابة تزدهر في ظل هذه الحال من الفوضى التي يتخبط فيها العالم بحيث تبدو أي محاولة للكتابة عن مستقبل مشرق محطًا للسخرية. لدينا حاليًا مارغرت آتوود، أنتوني بيرغس، ويليام غيبسون، سكوت ويستفيلد، وفيرونيكا روث وسوزان كولِنز – صاحبتا «الجامحة Divergent» و«ألعاب الجوع The hunger game» اللتان تحولتا لفيلمين شهيرين كمعظم روايات هذا النوع؛ هذا غير الانتشار الواسع في ألعاب الفيديو والقصص المصورة وغيرها.
عادة لا تنجح قوائم التوصية في الإلمام بكل الأعمال الهامة، لكن فيما يلي ثمانٍ من أشهر وأهم القصص التي تناولت مستقبل البشر الديستوبي، وهناك بعضها في قوائم أعظم الأعمال الأدبية في القرن العشرين.
1. آلة الزمن (1895) The Time Machine
لا يمكننا تغطية كل جوانب هذه الرواية التي كتبها البريطاني العظيم هـ. جـ. ويلز، فهي من أوائل الروايات التي تناولت فكرة المستقبل المظلم نتيجة للتقدم الصناعي واتساع الهوة بين الطبقات، إضافة إلى حبكة السفر عبر الزمن التي تعتبر سبقًا في القرن التاسع عشر.
فكرة الرواية بسيطة. يسافر البطل للمستقبل عن طريق آلة زمن، ليجد عالمًا شديد القسوة، تحولت فيه الطبقات الأفقر إلى جنس متوحش «المورلوك» الذي يقوم باصطياد الجنس المرفه الخامل «الإيلوي» الذي كان يمثل الطبقة الغنية. جاءت الرواية لتحذر من الفارق الطبقي ومن ظروف العمل القاسية التي تواجه العمال في مصانع لندن القذرة المكتظة.
كان تأثير نظرية ماركس واضحًا؛ ففي ظروف لندن في القرن التاسع عشر، طور ماركس نظريته عن الاشتراكية والثورة. كما أنها جاءت متأثرة بنظرية داروين التي كانت حديث الساعة. من نافلة القول أن هذه الرواية قد أثرت في معظم روايات الدستوبيا التي تلتها. إنها بحق دستور الدستوبيا أو الرواية الأصلية الـ prototype.
2. العقب الحديدي (1908) Iron Heel
للأديب الأمريكي جاك لندن، وهي تتميز بجمعها بين الخيال العلمي والأدب السياسي. فجاك لندن كان اشتراكيًا مخلصًا، شديد التأثر بأفكار ماركس. تتحدث الرواية عن عالم مستقبلي، يثور فيه المضطهدون والعمّال ضد طبقة طاغية–أوليغاركية تتحكم بالسلطة وأساليب هذه السلطة الوحشية في مواجهة الثورة.
والرواية تعتبر أدبًا سياسيًا فهي لا تناقش التطور التكنولوجي أو أي اختراعات مستقبلية، بل تركز على الآثار السياسية والاجتماعية. ويحمل لها المثقفون ذوي الميول الاشتراكية تقديرًا كبيرًا، فهي أول رواية تصور حتمية انتصار الاشتراكية وانهيار الرأسمالية. وهي، وإن نراها حالمة ورومانسية في وقتنا، كانت تثير الحماس الشديد وقتها.
الجديد في الرواية غير حبكتها المبتكرة هو أن الشخصية الرئيسية امرأة، ولم يكن هذا مألوفًا في نهاية القرن التاسع عشر، أن تكون هناك بطلة لكاتب رجل. بطلة الرواية هي زوجة لرجل يناضل ضد السلطة الرأسمالية. وقد نتج أخيرًا عن الصراع انتصار العمال ووصولهم للحكم ثم سحق المعارضين – يمكننا أن نرى التماثل بين ما حدث بعد انتصار العمال في الرواية، وبين ما حدث في النظم الاشتراكية الحقيقية – وكأن الرواية كانت كتيّب تعليمات لهم.
3. نحن (1924) We
هذه الرواية التي كتبها الروسي الموهوب يفيغني زامياتين هي الأولى من صف طويل من الروايات التي تنتقد الأنظمة الشمولية، ويمكننا أن نجد صداها واضحًا جدًا في «1984» و«451 فهرنهايت». لأول مرة نجد نقد فكرة النظام الذي يتحرك تبعًا لأيدولوجيا صارمة. في زمن كان فيه العالم يسير نحو اعتناق الأيدولوجيا/ يحذرنا زامياتين في وقت مبكر جدًا أن الأيدولوجيا قد لا تكون هي الحل لأنها تقوم ببساطة بنزع تميّز الناس وحرية اختيارهم كي ينسجموا مع التعاليم الموحدة التي يقرها النظام.
كتب زامياتين الرواية بعد الثورة البلشفية وسيطرة النظام الحاكم سيطرة مطلقة على روسيا، مع العلم أنه كان ثوريًا مخلصًا حتى أنه ترك أوروبا وعاد إلى روسيا بعد الثورة؛ لكنه أصيب بخيبة أمل كبيرة. فالأيدولوجيا التي كانت مثالية نظريًا، لم تكن كذلك على أرض الواقع، وقامت السلطات بمنع الرواية في الاتحاد السوفييتي.
تدور الرواية في بلد مستقبلي يخضع فيه الأفراد لمراقبة لصيقة، وجدران البيوت زجاجية شفافة، يتبع الناس نمطًا واحدًا في الغذاء ويرتدون زيًا موحدًا، ولم تعد هناك أسماء بل أرقام، وتخضع الدولة لحكم شخص واحد هو «المحسن الكبير» (يمكننا أن نرى بوضوح صدى هذا المحسن في أخ جورج أورويل الأكبر).
البطل هو شخصية مخلصة تمامًا للنظام، مهندس يساعد في بناء مركبة ستسافر للعالم الخارجي كي تنشر الدعوة لتطبيق النظام الحاكم، لكن قناعاته تتغير عندما يقع في حب امرأة، سيعرف لاحقًا أنها تنتمي لجماعة سرية تعادي النظام وتحاول إقامة سلطة أقل تحكمًا وأكثر إنسانية. يدرك البطل ما كان غافلًا عنه، ويقرأ عن زمن كانت تعيش فيه الناس دون قوانين إلزامية ونظم، وبعد أن يستغرب كيف كان الناس يعيشون دون قوانين، يدرك أن هذه الحياة، رغم فوضويتها، هي الحياة الحقيقية .
4. عالم جديد شجاع (1932) Brave New World
رواية ألدوس هكسلي الشهيرة التي تتحدث عن عالم مثالي للغاية من الخارج وبرّاق وسعيد، حيث لا ألم أو مشاكل، الكل يتمتع بالموارد والانفتاح الأخلاقي والاستقرار، ينقسم البشر في طبقات تتدرج من «ألفا»، الطبقة العليا الأكثر ذكاء وجمالًا، حتى «إبسلون» الأقل في كل شيء، وبينهما توجد «بيتا» و«جاما» و«دلتا»، ولكل طبقة خصائصها التي اكتسبتها أولًا بالتحكم الجيني، ففي هذا العالم لا يوجد آباء وأمهات، بل حاضنات إلكترونية تخرج الأجنة بعد تعرضها لظروف معينة من الغذاء والأكسجين بحيث تجعلها مناسبة لطبقتها. بعد التحكم الجيني يأتي التدريب المخصص لكل طبقة كي تناسب وظائفها فيما بعد وهي سعيدة وراضية بدورها. تعلمهم التدريبات أيضًا أن يكرهوا الكتب والزهور.
ويتم إعطاء كل الفئات أقراصًا منتظمة (أقراص السوما) لها تأثير مخدر ومهدئ وتجلب اليوفوريا أيضًا، توزعها السلطات وأدمنها الناس بشكل يجعلهم خاضعين تمامًا للسيطرة. لكن رغم كل هذه السعادة الظاهرية، يمكننا أن نرى بسهولة أن البشر فقدوا أهم شيء، وهو اختيارهم الحر وعواطفهم؛ فالعاطفة ممنوعة، فقط العلاقات الجسدية متاحة وبوفرة، لكن الحب فلا.
الشخصيات الرئيسية في الرواية ثلاثة. رجل وامرأة من «الفئة ألفا»، الرجل يشعر بالغرابة والتمرد على المجتمع، والمرأة منتمية تمامًا لهذا العالم المثالي، يزوران معسكرًا بدائيًا، تسير فيه الأمور على نحو ما كانت منذ قرون، بشر طبيعيون ولدوا من أب وأم، حيث يلتقون بـ «جون» البدائي الذي سرعان ما يجعلهم يكتشفون أن الحياة التي يحيونها هي حياة مزرية، وأن كل شيء في عالمهم مزيف، وأن مواطنيهم آلات بلا إرادة حقيقية، تقودهم السوما الذي وصفها قائد العالم لجون مرة بأنها «كالمسيحية، لكن بلا دموع».
الرواية بلا شك تعتبر فتحًا في عدة مجالات: الأدب السياسي، التقسيم الطبقي، الاستنساخ، اليوجينيا، وحتى طرق التعليم والسيطرة على الجموع. تم اختيارها من أفضل مائة رواية في القرن العشرين، وهي قطعًا تستحق، ويمكننا أن نرى أثرها في روايات عدة، منها «الجامحة Divergent» التي تتحدث عن عالم تنفصل فه حيوات الفصائل ذات الوظائف المختلفة كي لا يحدث بينهم تناحر، و«الواهب The Giver»، للويس لوري، التي يتم فيها تحييد كل شيء عن طريق أدوية معينة، المشاعر والماضي وحتى الألوان، كي يسود السلام ولا يحدث تباين يؤدي إلى صدام.