شَيْءٌ ما لم يُرِحْها في كلماتِ النَّادل،
خاصةً تلك المشاعرُ الحزينةُ التي كَسَتْ ملامحَه، ونبرةُ صوتِه التي كانت تُعبِّرُ عن تأثُّرٍ شديدٍ.
مئاتُ الأفكارِ والخيالاتِ دارتْ في عقلِها، وكلُّها كانت تُنْبِئُ عن مكروهٍ قد حدثَ لهذا الشخصِ، الذي لم يَعُدْ مجهولًا الآن، فقد أصبح له اسمٌ، وهو (أحمد مجدي)، بلْ هو ليس شخصًا عاديًّا، إنما كاتبٌ وروائيٌّ شهيرٌ كما وصفَه النادل.
لحظاتٌ من الصمتِ الثقيلِ والوجومِ حَلَّتْ على المكان، لم يقطعْها سوى صوتِ النادلِ وهو يستطردُ قائلًا بصوتٍ مبحوحٍ لا يكادُ يغادرُ حنجرتَه، ودموعُه تسبقُه:
اللهُ يرحمُه...
(حُلم) وكأنها لم تسمعْه جيدًا:
ـ ماذا قلتَ؟
النادلُ وهو يُردِّدُ نفسَ كلماتِه السابقةِ:
ـ أخبرتُكِ سيدتي أنه الأستاذُ (أحمد مجدي) الكاتبُ والروائيُّ، رحمه اللهُ رحمةً واسعةً.
(حُلم) وهي تشعرُ أنَّ الأرضَ تميدُ بها، وأنَّ قدمَيْها لم تَعودا قادرتَيْنِ على حملِها:
ـ هل تَقْصِدُ أنه مات اليوم؟
النادلُ بصوتٍ لا زال يحملُ نَبْرَةَ الحزنِ:
ـ لا سيدتي، لقد وقعَ له حادثٌ منذ ثلاثةِ أسابيع، وهو في طريقِه لإرسالِ روايتِه إلى دارِ النشرِ القريبةِ من هنا.
قاطعتْه (حُلم) صارخةً:
ـ أنتَ تكذب! أنتَ تكذب! لماذا تُضلِّلُني؟
النادلُ وقد تفاجأ بثورتِها وغضبِها:
ـ ولماذا قد أكذبُ عليكِ يا سيدتي؟
(حُلم):
ـ أَلَسْتَ تُخبِرُني الآن أنه تُوفِّي منذ ثلاثةِ أسابيع؟
النادلُ بتأثُّرٍ:
ـ هو كذلك سيدتي.
(حُلم) بثقةٍ وغضبٍ:
ـ كيف يحدثُ ذلك وأنا حتى الأمس، وعلى مدارِ ثلاثةِ أسابيع، أراه جالسًا على نفسِ هذه المائدة؟
النادلُ بدهشةٍ وارتيابٍ وقلقٍ بدا على ملامحِه:
ـ هذا مستحيلٌ يا سيدتي، فمنذ ثلاثةِ أسابيع كان الأستاذُ أحمد قد أنهى أحدَ فصولِ روايته (أرواحٌ شبيهةٌ)، وذهبَ لدارِ النشرِ ليسلِّمَها حتى يتمَّ تدقيقُها ومراجعتُها قبل النشر.
وعندما دلفَ إلى سيارتِه، وأثناء عبوره الشارعَ، أتت حافلةٌ منطلقةٌ من الاتجاهِ الآخر لترتطمَ بسيارتِه بقوةٍ شديدةٍ. وقد نتجَ عن الحادثِ الكثيرُ من الوفياتِ والإصاباتِ بين ركابِ الحافلة، أما سيارةُ الأستاذِ (أحمد) فقد تهشَّمتْ وتحطَّمتْ تمامًا، وهو ماتَ على الفور إثرَ نزيفٍ حادٍّ.
(حُلم) غيرُ مصدِّقةٍ ما تسمعُ:
ـ كيف هذا؟ هذا مستحيل! أخبرتُك أنني أراه يوميًّا على مدارِ الأسابيعِ الثلاثةِ الماضية، وبالأمسِ كان متواجدًا هنا على نفسِ المائدةِ خلفَ أشيائِه!
وهي تشيرُ إليها بأصابعِها المرتعشة، وكأنها قد وجدت طوقَ النجاةِ عندما شاهدت أوراقَه وقلمَه ونظارتَه وكتابَه، فقالت باستعطافٍ للنادل:
ـ هل تكذبُ عليَّ؟ أخبرني بأنَّ هذا ليس صحيحًا، أو فلتخبرني لماذا ما زالت أشياؤُه هنا كما هي؟ كيف؟ كيف؟
النادلُ وكأنه ينفي عن نفسِه تُهمةً أو يدافعُ عنها:
ـ سيدتي، كما أخبرتُك، فإن الأستاذَ (أحمد) عليه رحمةُ الله، أحدُ روادِ المكانِ الدائمين، وقد كتبَ معظمَ أعمالِه هنا، وعلى هذه المائدة، وقد رأينا نحن أنه وفاءً لذكراه، سيكونُ هذا الركنُ تخليدًا له ولروحِه وأدبِه.
ولقد تركنا كلَّ شيءٍ بنفسِ موضعِه كما تركَه الأستاذُ (أحمد)، حتى نظارتُه قد تنازلَ عنها ورثتُه لتكونَ مع أوراقِه وقلمِه، وهي مهشَّمةٌ من أثرِ الحادثِ.
لم تتمالكْ نفسَها وهي تسمعُ ما يخبرُها به النادل؛ شعورٌ بالألمِ والحزنِ والعجزِ، مشاعرُ متضاربةٌ، شعرتْ بدُوارٍ شديدٍ، كادتْ تقعُ على الأرضِ من شدَّةِ الإرهاقِ والألمِ.
ذهبت بخُطًى ثقيلةٍ باتجاهِ المائدة، وجلستْ على نفسِ الكرسيِّ الذي كانت تُشاهده عليه.
بصوتٍ خافتٍ لا يكادُ يُغادِرُ شفتَيْها طلبتْ كوبًا من الماء.
ذهب النادلُ ليُحضِرَ لها الماءَ وهو يتمتمُ بشفاهِه كلماتٍ غيرَ مسموعةٍ تدلُّ على حيرتِه وعدمِ فهمِه للأمر:
ـ ترى مَن تكون؟ هل هي قريبته؟ أو إحدى قارئاتِه أو معجباتِه؟
ولكن كيف هذا؟ وهل هناك أحدٌ في الوطنِ العربيِّ لم يسمعْ بهذا الحادثِ المؤسف؟
ثم كيف تقولُ إنها تُشاهده منذ أسابيعَ وحتى الأمسِ على مائدتِه؟
بلا شكٍّ هي مختلَّةٌ عقليًّا!
حتى إنني لم أرَها من قبل، وهذه أولُ مرةٍ أشاهدُها هنا منذ عملي على مدارِ سنواتٍ.
كانت هذه كلماتُه لنفسِه قبل أن يُحضِرَ لها الماءَ ويسألَها إن كانت بخير.
أومأتْ برأسِها دلالةً على أنها بخير، وطلبتْ منه أن يتركَها بمفردِها قليلًا.
لم يتوقفْ هاتفُها عن الرنين، بصعوبةٍ بالغةٍ طالعتْه لترى اسمَ (فرح) تحاولُ بإلحاحٍ أن تطمئنَّ عليها.
ولكن كيف تردُّ عليها؟ وماذا عساها تُخبرُها؟ وكيف ستشرحُ لها ما تعجزُ هي عن فهمِه؟
هل ستُخبِرُها أنها قد أصابَتْها لَوْثَةٌ عقليةٌ، وأنها يوميًّا ترى شخصًا ميتًا فعليًّا منذ ثلاثةِ أسابيع؟
أم تغادرُ هذا المكانَ وتنسى كلَّ شيءٍ، وكأنَّ شيئًا لم يحدث؟
بصعوبةٍ بالغةٍ تناولت الكتابَ وفتحَتْه، وبمنتصفِه وجدت وردةً ذابلةً قد تآكلتْ أوراقُها، لكنها ما زالت تحتفظُ بنفسِ عبيرِها.
نعم، هي نفسُ الوردةِ التي أشارَ لها بها، هي متأكِّدةٌ من ذلك.
قلَّبتِ الأوراقَ وهي تتجوَّلُ بين الكلماتِ والحروفِ، فوجدتْ مسوَّدةَ الروايةِ، وكم كانت دهشتُها وحيرتُها عندما لمحت اسمَ الرواية، فقد كُتب بخطٍّ واضحٍ:
حُلمٌ عابرٌ وبين قوسين (أرواحٌ شبيهةٌ).
اغرورقتْ عيناها بالدموع، وهي تكادُ لا تُصدِّقُ ما تراه.
ـ كيف يُعقَلُ هذا؟
أَتُراه كابوسًا ستُفيقُ منه بعد دقائق؟
هذا اسمُها (حُلمٌ عابرٌ)، وهذا اسمُ روايتِه الأخيرةِ التي أخبرَها عنها النادلُ (أرواحٌ شبيهةٌ).
ترى ما الرابطُ بين اسمِها وبين اسمِ الرواية؟
بلْ ما كلُّ هذا الذي تراه وتُعايشُه ولا تستطيعُ تفسيرَه؟
وأثناءَ حيرتِها وتساؤلاتِها اللامتناهية، وجدتْ أقصوصةً صغيرةً كُتبتْ عليها كلماتٌ يبدو أن صاحبَها كتبَها بسرعةٍ وعلى عجلٍ، ولكنها واضحةٌ ويمكنُ قراءتُها.
كانت الكلماتُ تقولُ:
(أعلمُ أنكِ ستأتينَ إلى هنا، وذاتَ يومٍ سيقودُكِ الحنينُ، واعلمي أننا وإنْ لم يكنْ مُقدَّرًا لنا اللقاءُ هنا، فسنلتقي هناك... أحبُّكِ وكفى.)
وكانت الكلماتُ مذيَّلةً بتوقيعِه (أحمد مجدي).
لا شعوريًّا طوَتِ الورقةَ ووضعتْها بحقيبتِها، ونهضتْ بصعوبةٍ وهي تشعرُ بالاختناقِ ولا تكادُ تتنفَّسُ.
وأثناءَ محاولتِها النهوضَ من مكانِها للرحيل، اتجهتْ بعينيها إلى النافذةِ التي كانت تُطالعُها كلَّ يومٍ وتراه من خلالها،
فكادتْ أن تُصعَقَ في مكانِها!
فمن مكانِها بالكوفِي شوب رأتِ الحافلةَ متوقِّفةً بالإشارةِ المقابلةِ، وعلى نفسِ مقعدِها بجوارِ النافذةِ، وجدَتْه يُحدِّقُ بها ويتمتمُ بنفس الكلمةِ التي كان يُردِّدُها وهو يُشيرُ لها بالوردة.
نعم، إنَّه هو، بملامحِه التي تحفظُها عن ظهرِ قلبٍ!
كيف تبدَّلتِ الأدوارُ؟
أنا هنا على مائدتِه خلفَ أوراقِه وقلمِه، وهو بالحافلةِ على مقعدي بجوارِ النافذةِ!
وكان آخرُ ما رأتْه قبل أن تتهاوى أرضًا وتَصطدمَ بالمائدةِ، هي الحافلةُ تعبرُ إشارةَ المرورِ، وعيناها معلَّقتانِ بوجهِه وبشفاهِه التي تُردِّدُ نفسَ الكلمةِ...
ـــــــــــــــــــــــــ
يتبع
 
 


























 
  هند حمدي عبد الكريم السيد
 هند حمدي عبد الكريم السيد 
  
  نجلاء محمود عبد الرحمن عوض البحيري
 نجلاء محمود عبد الرحمن عوض البحيري د. نهله فتحي بيومي حموده
 د. نهله فتحي بيومي حموده يوستينا الفي قلادة برسوم
 يوستينا الفي قلادة برسوم آمال محمد صالح احمد
 آمال محمد صالح احمد احسين احمد الشريف بن قرين درمشاكي
 احسين احمد الشريف بن قرين درمشاكي دعاء محمد علي الشاهد
 دعاء محمد علي الشاهد د. سمر ابراهيم ابراهيم السيد
 د. سمر ابراهيم ابراهيم السيد د. نهله عبد الحكم احمد عبد الباقي
 د. نهله عبد الحكم احمد عبد الباقي  د. عبد الوهاب المتولي بدر
 د. عبد الوهاب المتولي بدر  د. محمد عبد الوهاب المتولي بدر
 د. محمد عبد الوهاب المتولي بدر  ياسر محمود سلمي
 ياسر محمود سلمي  زينب حمدي
 زينب حمدي  حنان صلاح الدين محمد أبو العنين
 حنان صلاح الدين محمد أبو العنين  د. شيماء أحمد عمارة
 د. شيماء أحمد عمارة  د. نهى فؤاد محمد رشاد
 د. نهى فؤاد محمد رشاد  فيروز أكرم القطلبي
 فيروز أكرم القطلبي 

 1
1
 -1
-1


































