سعدت عندما تلقيت هذه المجموعة الشعرية للشاعر حاتم عبدالهادي وسعدت أكثر عندما أعدت قراءتها، وشعرت أننى بين يدي شاعر يدهشك لقدرته على خلق هذه الدرجة العالية من التوازن بين الخيال والواقع، بين التقرير والإيحاء، بين الحلم والحقيقة، بين الأمس واليوم، بين الألم واللذة بين التمرد والرضى، بين الضجر والمعاناة وبين الفرحة والنشوة.
يجمع كل هذه الثنائيات في نسيج فريد متكامل، وفى استواء وسلاسة ونضارة وتوقد، وفى لغة تستلين له طواعية وتبقى أليفة حية طوال قصائد الديوان كله "اشتعال الجسد" الصادر عن ثقافة شمال سيناء 2000.
هذه القدرة على خلق هذا التوازن بين الأطراف المتقابلة هو في الحقيقة إنجاز رائع وهو عندى يحقق موقفا معتدلاً وليس مشتعلاً من معركة الحداثة. ففكرة الحداثة التي حملها جيل الأربعينيات والخمسينيات وما بعدهما قد تحققت بشكل متوازن في شعر حاتم عبدالهادي الذي لم تكن الحداثة عنده مجرد جزء من حضارة القرن الواحد والعشرين بل إسهاماً فاعلاً وإيجابياً في هذه الحضارة.
ولكي تكون كذلك فأنت مطالب بالتمرد ومطالب بأن يكون في تحررك ما يستمد بعض حيويته من جذورك، وما تضيف إليه من أصالتك المتجهمة نحو زمانك فتصبح جزءاً فاعلاً في عصرك.. جزءاً غير منقطع عن ماضيك، ولكنه جزء لا يكرر أو يعيد هذا الماضي، بل يحفزه على التحرر حتى في حاضرك..
إن في التراث قوة نستمدها ولكن يجب أن نضيف إليها قوة جديدة.. ولن يكون ذلك إلا بالعودة إلى التراث، ولكن الانطلاق منه وبالإضافة إليه، فهذه الإضافة تجدد قوته وتهيئ المسار للمستقبل.. وهنا تأتى قيمة الدمج بين الوعى بالتراث ووعينا المعاصر.
فالمجددون هم في الأغلب يملكون وعيّاً تاريخيّاً عميقاً والذي لا يملك هذا الوعى لن يكون مجدداً... أقول ذلك لأننى كثيراً ما تصفحت مؤخراً بعض الكتابات التي قد تروق لبعض القراء فوجدت أنها في الغالب ليست إلا من هذا النوع الذي يستهدف خلف ضباب عاطفى يتيه القارئ في أطوائه، فإذا تصفحت وتمعنت في هذا الضباب العاطفى نفسه وجدت أنه ليس بأكثر من نفخة حارة على لوح زجاج بارد، يخيل للقارئ المسكين أنه يرى هذا النوع من الكتابة صوراً لنفسه المعذبة، وهى ليست في الواقع إلا كلمات قد غمست بعواطف مبهمة تهاجم المتلقى في تداع نفسانى مبتذل... وهكذا يجتمع الإبهام بالضحالة والتشتت بالانفلات. وكلها عدو الأدب. ولكننا في ديوان اشتعال الجسد نلمح سمة التوازن بين الثنائيات والأطراف المتباينة وعناصر العمل الفنى من فكر وشعور وصورة وإيقاع، والاهتداء إلى لغة تصهر ذلك كله في نسيج واحد متكامل هى الظاهرة اللافتة كما أشرت. وهى منتشرة في قصائد شاعرنا كلها واهم نتائجها الإيجابية أنها لغة تنطق بلسان النصف الثانى من القرن الواحد والعشرين ولكن بطريقة الشاعر التي حافظت على حضوره الذاتى، فشعره يحمل تجربة العصر وتجربة الذات في وقت معاً.
فانتهى إلى صياغة تحاول أن تعيد الشعر إلى الحياة وأن تعيد الحياة إلى الشعر.
وانظر معى في قصيدة (لأى سوف تنتسب) صـ 81 يقول فيها:
لأى سوف تنتسب ؟ !
لهذى الأرض أم للموت تنتسب ؟
لموج البحر – أم لرياح أقدار ستصطخب ؟
أيا قلباً – كهذا الجمر – تتقد ؛
و تشتعل كل أركانى،
و تنتحبُ..
لأى سوف تنتسب ؟ !
لهذا القهر أم لظلام أيام !!
تمنيت الحرث والغرس
و تغدو في المدى ظلاً وترتحل. هذا الحوار الذي أنشأه الشاعر بينه وبين صاحبه وذاتيته لهو حوار الحياة الأليف الذي ينطلق من أعماق النفس فيحمل شحنته من واقع الحياة، ثم يجمع هيبة الانتساب وحرية العبارة وأصفادها. فالشاعر يحس هنا بقهر الأيام وظلامها، ولكن لا تمنعه من أن يتحرك تلقائياً في انسيابيه مطلقة..
هذا فضلاً عن امتزاج الخارج عند الشاعر بدواخله عبر هذا التساؤل الذي يطالعك في صدر القصيدة (لأى سوف تنتسب؟!).
وما يحمله هذا التساؤل من صراع داخلى يستمر على طول القصيدة.. فإن ثمة إشكالات تثير فيه الشك والسأم بل تتجاوزهما إلى التمرد. وإذا تعمقت أكثر فستجد إلى جانب ذلك كله امتزاج المنطلق بالشعر امتزاجاً لا يقلل أحدهما من قيمة الآخر.
و في قصيدة (أقواس الخريف) صــ 42
سترى صراعاً بين الحلم والواقع يبدو فيه الشاعر وقد سئم المساحات والزمن الملئ بالفراغ وألاعيب الحب وصدح المساء.
أما حوارية (امرأة بنكهة القهوة) صــ 8
فهى في مجموعها حوار متصل بين رجل وامرأة ومع انه أقرب إلى الحوار الذاتى للذات فيكاد يقرأ على أنه حوار درامى جنسى بينما هو حوار درامى مسرحى لأن ما يطرحه الشاعر فيه يحقق ما يسمى بالحوار المتنامى الذي يحمل دفئاً إنسانياً ويصدر موجات عاطفية متباينة أشبه ما تكون بالفعل ورد الفعل وهى سمة درامية :
يقول الشاعر: المساء يُسقط عصارته
فوق جسدها البض ؛
و أنا أنظر من شرفتى إلى المدى
و أقول : تُرى هل تشعر بوجودى ؟
و في الجزء السادس من قصيدته (امرأة بنكهة القهوة) صــ 10 يقول: قومى الآن
لقد انتشينا أكثر من اللازم
ربما تريدين المزيد،
و ربما أريد أيضا
كلانا يطلب الآخر
فلماذا نعذب الجسدين الحالمين،
و نسكب قهوتهما في السراب ؟ فى هذه القصيدة وغيرها من القصائد التي تتناول عاطفة الحب والغرام نرى حرص الشاعر على تنشيط هذه العاطفة لأن تنشيطها يجدد الحس بالحياة لأن فقدان هذه العاطفة وجمودها وتبلدها يمنع عن النفس استدرار روعة الحياة، كما يمنع عنا الحركة ونفاذ البصر والتنفس الحر الطيب.
و من هذا اللون من الشعر الذي يفيض بالدفء والحميمية العاطفية الإنسانية قصائد الشاعر لمعشوقته ومناجاته لها.
غير أنها قد تختلف عن سابقاتها، فبينما نرى حلاوة الحب في القصائد السابقة تخالطها مرارة تشتد وتخفُت فإننا نرى في عاطفة الشاعر نحو معشوقته تلك العاطفة الخالصة التي لا تشوبها شائبة من هم. بل هى الواحة التي يلجأ إليها الشاعر كلما تفجر قلبه ببحار الحزن، وحين يوصد في وجه الشاعر باب الحبيبة وعندما يثقل عليه الزمان بغدره ويفقد الأمان يعود إلى أحضان البدوية الآتية من الشرق صــ 60 ليجد فيها الطمأنينة والراحة والسكينة ! من ذا يضمد جرحك البدوى،
يا امرأة يجاذبها السكون
و لا تبوح بسرها للموج أو للشمس،
أو للحب في ضوء النهار ؟ !
من ذا يقايض بالجوى خمر التلذذ
بالضياء الغض
من سجادة الصحراء،
الدهشة الحبلى بماء الإنبهار تسامقت
والعادر البدوى أرخى جفنه نحو الحياة ؟ !
و قبل أن نترك قصائد الحب لابد من الإشارة إلى هذا الصراخ الصامت والمتفجر في دخيلة الشاعر..
إنها حد ما مأساة الشاعر ولعلها سر قوته أيضا.. في دخيلة شاعرنا أصوات هوجاء من المرارة أحياناً والتحدى والإصرار أحياناً أخرى. أصوات تعصف في صدره.. في شرايينه.. من أين تجئ وإلى أين تنطلق، وما الذي تستهدفه سوى ذلك الدهشة الحبلى وسجادة الصحراء والإبهام المستحيل الرائع التي أتت من الشرق ولهاث التجربة التي تسطع كالرؤيا فجأة ثم تختفى.. في عاطفة الحب علانية – الحب الذي يعبث بالمنطق وحقائق لحن الصمت وروائع النفس وتكسر الأحلام عبر ربابة الحزن العميق ؟! الذي الذي يبعث في النفس الشعر والموسيقى..
هذه العواصف الثائرة في صدر الشاعر نراها مبثوثة في كثير من قصائده، ولعل هذا هو السبب في تسمية الديوان (اشتعال الجسد)، هذه الأحاسيس والمشاعر والأصوات الهوجاء في دخيلة الشاعر والتى تنتشر كما قلت في معظم قصائده تمثلها وتجسدها بشكل خاص قصيدته المسماة (اتدفأ بين السديم) صـــ 78 رغم قصر هذه القصيدة لكنها من بدايتها تكشف عن إحساس الشاعر بأن ثمة وجوداً رائعاً هناك لم ينل منه ما يريده (النور – السديم – المشكاة) ويبقى هذا الإحساس مستقراً في أغواره البعيدة في غبش ضياء الليل الحالك والتى لا يمتلك سواها ولايفتأ يعاود البحث عنها من حين لآخر.
و على رغم العواصف التي تحول بينه وبين تحقيق مآربه في قصائده اليتيمة، فإن الأمل في الدفء بين السديم لا يفتر عند الشاعر فهو يصر على أن يظل يراقب خروج النور من المشكاة بصلابة وتحد:
سوف أرقب خروج النور من المشكاة،
و انسلاخ النهار من الليل
سأتدفأ بين السديم،
و أغبش ضياء الليل الحالك
بقصائدى اليتيمة
التى لا أمتلك
سواها !! فالشاعر كما ترى يدخل معركة يقاتل فيها بقوة وإصرار يحاول ذلك بكل ما تسعفه به قواه حتى لكأنه صراع من أجل الاستيلاء على النور في مدينة نائية موصدة الأبواب وحالكة الظلام وهو يقف أمامها في الانتظار من أجل العالم الذي أحبه غير آبه بالظلام الحالك ولا انطفاء النور وانتظاره حبيساً لمجيئها فإنه عنيد يبقى :
قصيدة (أنشودة السماء ص ــ 69 يقول الشاعر : يا طائراً مغرداً،
رائحاً وعادياً..
تغرد،
تطير من أقصى الشمال
لهذه الأرض الفسيحة تنشد،..
لحن الصبابة والجوى
يا طائراً للحب أضحى أغنية،
يا عالماً بالبحر حين الموسم تجئ في الخريف تطلب المدد،
فتهطل المروج بالعبق
و تفسح السماء جانباً،
لوردك المنايا
تحوقلُ.. لكن هذا الخريف الذي يرمز للخلاص لا يتحقق ويظل الصراع صراع الطائر والبحر وهطول المروج بالعبق متصلاً.. (وانشودة في أنشودة الحياة) كما يقول في نهاية القصيدة,و يظل الشاعر يحمل توق طفولته وصباه ويبقى ماضياً في اتجاه مجاهيل لا يدرْ متى سيعود الطائر من المروج حاملاً رؤية جديدة.. فإن الأهم عند الشاعر هو الرغبة في دخول المجهول والتغلغل فيه والمهم أيضاً أن يعود هذا المجهول وقد استطاع أن يقول شيئاً.
إن مغامرته في اقتحام السماء والنجوم بطائره الذي رمز به مغرداً لهى مغامرات في تواكب دائم في أن يعبر عن بعض ما رأى، وهو دليل أن الرحلة رحلة الحياة في هذا الزمن هى رحلة صراع بين الرجل والمرأة أيّاً كانت في المدينة أو الصحراء إنها رحلة ذهاب وإياب وأنها تتكرر وستظل تتكرر.. ظفرنا بالمرأة بما نريد منها أو لم نظفر.
و هكذا فالعشق عند شاعرنا (حاتم عبدالهادي) ملئ بخواطر الهلاك يتجدد في كل مرة بأردية البطولة وصخب البحار، وروعة الأنثى، لا إلى العشق ينتهى ولا للهلاك الآخر.. وفى هذا العالم من الانتشاءات المحاصرة بالقلق والعتمة أحياناً هناك دائماً ما يتوهج ويتحول من رماد إلى نار.
والشاعر الكبير هو الذي يصنع تجربة العشق التي لا يمس طراوتها الزمن في صور من تجربة الحب في هذا العصر إنها تجربة العصر أحياناً وتأكيداً على تعاصر الحب والمرأة بالرجل أبداً.
و الأروع من هذا أن تكشف هذه التجربة عن بعض أزمات الرجل والمرأة أو أزمات الإنسان المعاصر، وأن تجاوز الموقف الذاتى إلى رؤية تنطق بلسان التجربة الأزلية والتى هى أساس للشاعرية الحقة كما هى أساس للديمومة، وفى شعر (حاتم عبدالهادي السيد) هاتان القوتان الفاعلتان معاً وهذا هو سر إعجابنا بديوانه الجميل (اشتعال الجسد) وتجربته الشعرية في شعره.
إن تجربة شاعرنا (حاتم عبدالهادي) لهى تجربة مغرقة في رقتها ورومانتيكيتها بداية من معنى الديوان (اشتعال الجسد) الذي تكرر عدداً من المرات داخل الديوان ومروراً بالإهداء وانتهاء بالتجربة الشعرية نفسها في جميع القصائد التي تؤكد مهارة الشاعر واقتداره الأدبى المتنوع الروافد والحس الرومانسى لإنسان عاشق يبحث وينقب بين زمن ولت فيه كل الرومانسيات الإنسانية الجميلة.