ما الذي يجعل نائبًا في البرلمان يُعد صوتًا حقيقيًا للأمة، بينما يُنظر إلى آخر على أنه مجرّد حامل لحصانة وامتياز؟
وهل النائب في النظام الديمقراطي الحديث يُمارس سلطةً تفويضية تعبّر عن ضمير الشعب وتراقب باسم الأمة، أم أنه يتحول إلى صاحب مصلحة خاصة تُدار في صمت خلف الأبواب المغلقة؟ ولماذا يشعر المواطن المصري – في غالب أحواله – أن ممثله البرلماني قد تنكر له، وتحوّل إلى رمز اجتماعي لا يعبأ بتشريع ولا رقابة؟ وهل يُعقل أن يتساوى في الصفة من يشرّع بقوة الحضور، مع من يكتفي بالصورة وعبارات المجاملة الموسمية؟ وهل ما زال البرلمان، في ضمير الأمة، منبرًا للرقابة والتشريع، أم أنه صار منفى للوظيفة العامة وقبرًا للمحاسبة؟
في سياق هذه التساؤلات المُلحة، يصبح لزامًا علينا أن نستحضر المقارنة المعيارية، لا بغرض "التهكم" على واقع، ولا تبجيل نظام آخر، بل من أجل إدراك الفارق بين النص وتطبيقه، وبين الدستور كمثالٍ، والنائب كفاعلٍ. ففي فرنسا، لا يُعد النائب مجرد عضو في هيئة "تمثيلية"، بل هو صانع فعلي للتشريع، يشارك في صياغة السياسات العامة ويخضع لضوابط مالية ومهنية صارمة. يتقاضى النائب الفرنسي ما يُعرف" بالتعويض البرلماني"، المعلن بدقة، ويُحاسب على الأداء، وتُراقب نفقاته، ويُشترط الحضور والمشاركة، وإلا فُرضت عليه جزاءات مالية ومعنوية. فلا الحصانة مطلقة، ولا الامتياز موروث، ولا الغياب يُغتفر، بل إن البرلمان هناك – بمجلسيه – يخضع في ذاته لرقابة الإعلام، وتقييم الناخب، ومحاسبة المحكمة الدستورية إن لزم الأمر.
أما في الولايات المتحدة، فإن النائب يُمارس دوره في بيئة مؤسسية تعلي من مبدأ الفصل بين السلطات، وتقوم على رقابة متبادلة لا تعرف المجاملة السياسية. الراتب معلن، الامتيازات محددة، المخصصات تخضع للتدقيق، والمساءلة – سواء كانت أمام لجنة الأخلاقيات أو أمام الرأي العام – حاضرة في كل لحظة. وهنا، لا تكاد تجد نائبًا لا يعرف حدود مهمته، ولا يُتابع لجان المجلس، ولا يُناقش الميزانيات، أو يتغيب عن الجلسات دون مبرر، فالثمن هناك هو فقدان الثقة، وربما فقدان المقعد نفسه في انتخابات لا ترحم.
في المقابل، نجد في مصر معضلة متراكبة لا تتعلق فقط بشخص النائب، بل ببنية المنظومة التشريعية نفسها. فالنصوص الدستورية تُقر بوجوب قيام النائب بدوره التشريعي والرقابي، وتفرض عليه التزامًا أخلاقيًا ووظيفيًا تجاه الأمة، غير أن الواقع يكشف عن تناقض بيّن بين المقروء والمُعاش. النائب يتقاضى مكافأة، لا يعلم المواطن تفصيلها، ويحظى بامتيازات، لا تُربط بالأداء، ويتمتع بحصانة، قد تُستغل أحيانًا في الإفلات من المحاسبة لا في حماية حرية الرأي. الغياب عن الجلسات لا يُقابل بردع حقيقي، وتقديم الأسئلة وطلبات الإحاطة يتحوّل إلى استعراض شكلي، بينما الدور الرقابي الجاد يغيب في أروقة المجاملة، أو يُحجم عنه تحت مظلة "الاستقرار".
فهل النائب في مصر مُكلف أم متسيّد؟! وهل أداته في التعبير هي النص الدستوري، أم شبكة العلاقات؟ وهل غايته تمثيل الأمة، أم ضمان النفوذ؟ هذه الأسئلة لا تُطرح بدافع التشكيك، بل بدافع الإصلاح، لأن النائب الذي لا يُشرّع ولا يُراقب، هو في حقيقته عبء على المؤسسة، وخسارة للمال العام، ومصدر تهديد لثقة المواطن في النظام النيابي ذاته. إن المنصب النيابي، في جوهره، ليس وجاهة اجتماعية ولا رتبة سياسية، بل هو عقد أخلاقي وقانوني بين الشعب وممثليه، ومن يُخل به، وجب مساءلته، لا مجاملته.
ولعل بداية الإصلاح تكمن في الشفافية أولًا، بأن تُعلن المكافآت والبدلات على الملأ، ويُربط الأداء بالاستحقاق، وتُقيّد الحصانة بما يخدم الوظيفة لا يحصن المخالفة. ويأتي بعد ذلك إصلاح الوعي، بأن يعلم النائب أن الأمة التي أولته الثقة قد تنزعها، إن أساء الأمانة أو تقاعس عن القيام بواجبه. كما يجب ألا يُترك أمر التقييم لجهات داخلية فقط، بل يكون للمجتمع المدني، والإعلام الحر، والجامعات، دور واضح في مراقبة أداء النواب وتحليل إنتاجهم التشريعي بدقة وموضوعية.
ليست المقارنة هنا تبجيلًا لنموذج على حساب آخر، وإنما تذكرة بأن النائب لا يكون نائبًا إلا إذا حمل همّ الأمة، وارتقى بسلطته من مجرد حضور شكلي إلى عمل تشريعي ورقابي جاد، وأن البرلمانات تُقاس بقوة أعضائها، لا بثراء قاعاتها، وأن التشريع لا يزدهر في ظل الغياب، ولا تُبنى الثقة في بيئة تتكئ على الامتيازات وتغفل المحاسبة.
فهل آن الأوان أن يتحرر النائب في مصر من صورة "المُحصن الدائم"، إلى دور "الخادم العام"، الذي لا يعلو على القانون، بل يُجسده؟ وهل سنرى يومًا برلمانًا يُحاسب قبل أن يُحاسب، ويُعلن نفسه على الناس قبل أن يطلب منهم ثقتهم؟ أسئلة مؤرقة، لكنها مشروعة، وإجاباتها تصنع الفارق بين برلمان يُعلي صوت المواطن، وآخر يُحكم إغلاق الميكروفون. والله من وراء القصد