امتزجت نصوص ( زين العابدين الشريف ) بهواجس السنوات الأخيرة من القرن العشرين , وتتابعت بين سطورها ضربات تتكسر شظايا فتملأ المدي آلاما وعذابا , لكنها لم تستطع أن تحجب شفاها تشق جدار الصمت بنداء الحرية والحب وآلام الرجل والمرأة بشتي دروبها.
وقد توزعت في هذه النصوص ما بين تجربة المرأة وتجاهل الحلاق والبحث عن نعيمه في الشارع القديم مع ألوان الطريق ووجوه الناس في رحلة الي التذويت الذاتي .
زين العابدين الشريف .... غدا علامة واضحة في نشاطه الصحفي وكتبه الإبداعية وبالذات في ولوجه عالم القصة القصيرة .. فإننا نجد أعماله الذي بعثر منها كثيرا من الأوراق علي الصحف والمجلات فلابد من وقفه تستحق النقد المتأمل والذي يمكن لها أن تقدم خطوطا مفيدة في مسار النوع الأدبي المتنامي وهو مجموعة ( لم يعد متاحا) القصصية التي لم يحدد لها مكان للطبع أو حتي للنشر وهذا ما أفزعني ..لم ؟
لأن زين الشريف صدر له من قبل مجموعتان قصصيتان وهي (حدث في العريش ) والصادرة عن الأهرام ومجموعة ( نباح وهمسات ) الصادرة عن فرع إقليم ثقافة شمال سيناء .
أما هذه المجموعة رغم جودة غلافها وأوراقها من الداخل إلا أنني وجدتها مجهولة مكان النشر والطبع ولا أدري لماذا أيضا لا يوجد فهرست في نهاية المجموعة ؟
المهم نعود ونلج إلي ( ما لم يعد متاحا ) فنجد مسار النوع الأدبي المتنامي وهوو كثافة اللغة التي تقابل شكلانية النص .. فثمة جوهر مشترك وتجليات أسلوبية متفاوتة كما يكون الشأن في القص المكتنز وذاك النثري وتلك الأعمال السردية النثرية حملت مجموعته ( لم يعد متاحا ) حصاد تطلعات احتشدت فيها الرؤى والأفكار متأثرة باللغة الواقعية في بنية النص ومقاطعه والميل التصويري وامتداد السطور وكلماتها , لكن هناك قصص أسست مسارا يجمع بين تراث ومثاقفة إنسانية بغية بلوغ معرفته بالنفس وطريق موصول بمستقبل آهل له (( تجربة - إمرأة مهمة - صفقة أبو عرب - الوليمة )) وسوف تتناثر في النص أصداء كثيرة وتلميحات وتنويعات علي بؤر القصص .
وتمثلت المرحلة الثانية من المجموعة في (( الحلاق - في الشارع القديم - النجار - لم يعد متاحا - المتسول )) إنها قصص تضيء وتؤكد وصول دلالات متانة اللغة والتطور الكبير بدءأ من تبلور بنية النص القصيرة والمقتصدة في كلمات سطورها وجملها , إلي بروز معالم أسلوبية سواء في المنظومية الدلالية أو الصورة أو التشكيلات الجمالية للتركيب اللغوي بما يجعلها جامعة للسمات الفنية .
وكان زين الشريف في (( الأوزة - عناق القطرات - نشوة - لقاء مع شاعر - نزوة - قبل التقاطع بكثير - البرتقال - أنت السبب يا أمي - عواطف - النسخة الوحيدة - غصة - الأرملة والحبل - أرق )) ا
في مرحلة ثالثة من مجموعته القصصية ( لم يعد متاحا ) قد مال فيها زين الشريف إلي النص الطويل في عدد مقاطعه والمركز في الدوال والجمل والموغل في دروب علا بين جوانبها ضجيج العولمة وبدا الإنسان ضائعا في التيه رغم الصور والأضواء من حوله .
من قصة (( الأوزة )) ص 31
(( تتهيأ شمس الجمعة لتغادر ظهيرتها .. تلملم شعاعها المتسلل الي قيعان الأشجار الكثيرة المتناثرة في تلك القرية الراقدة علي أطراف همومها ...))1
وفي قصته (( لقاء مع شاعر )) ص 57
(( انطلق بصري يتلمس فضاءات الشارع الذي خلا من المارة في تلك القرية الناعسة قبيل الغروب ))
لقد آثرت أن أقف مع مجموعة (( لم يعد متاحا )) القصصية ونصوصه لأنه يمثل المرحلة الثالثة من تجربة القاص زين العابدين الشريف وهو الأقرب اكتمال الأدوات مع خطاب عميق وهادئ بعيد عن الشعارات التي رافقت حماسة كتابات أدباء القصة .
ونحن نحس بتفاؤل لا يغفل عن حطام يتراكم أو تحديات لها مخالب جارحه .
ويبدو لي أن هذه الحالة المتطورة من الأداء الإبداعي للنص القصصي لا تقع في ساحة حداثه متقطعة وإنما هي تجليات تتطلب نمطا من القراءة والنقد متضافرين , وعلي الرغم من إمكانية معايشة النص المفرد في المجموعة إلا أن قراءة النص الشامل وأعني به قراءة النصوص وتفكيكها ضرورية حتي نري ونتابع رسالة المبدع سواء في هذه النظرة المتأملة والمتعمقة لوجوه التجربة متعمقة ومجتمعة , أو في إعادة اكتشاف النص المفرد عبر إضاءات دلالات النصوص التي تضمها المجموعة القصصية (( لم يعد متاحا )) وأؤكد أنني ههنا لا أقدم نصا آخر عبر النقد وإنما أسهم في القراءة الآنية أو ما أراه رؤي ثانية أبعد غورا مع متلقي من أيامنا يبذل جهدا مع متعة جمالية تمر عبر النصوص .
لعل غني عملية التلقي في (( لم يعد متاحا )) تتمثل في فجوات أو إضاءات متفرقة نلم أطرافها , وواضح ان الرغبة المشتركة بين المبدع والمتقي علي مواصلة البحث هي أساس التواصل , ونلحظ أن " زين العابدين الشريف " قدم نفسه واحدا من أبناء هذا الزمن موصولا مع ثقافته القادرة علي عبور التاريخ الي واقع لنا وكذلك هو بعض من حركة تفيد من الثقافة الإنسانية وتعي وقائع فصول القوة والتحدي , فلا رومانسية هائمة ولا أوهام الانقطاع , وقد تتابعت دوال تتموج بها النصوص , ويدرك المتلقي قربه منها ومن ثم يلمس العلاقات من حولها أو ما تستتبعه (( أصوات أبواق السيارات - القطار يسرع بهديره - أبواب الحافلات - ترجلت من سيارتي - ترك جسده المكبل - في مقعد الطائرة )) وتعبر الأسماء عن شبكة تشكل أطرافها جوانب نعايشها أو هي تواجهنا وتستنفر مواقفنا (( الهاتف - محلات الكاسيت - أبواق المساجد المجاورة - المشط - المقص - العصير )) ولا نجد تحديدا للمواقع في النصوص وإن كنا نلحظ انها من عالمنا المصري ومن ذاك الذي كان العالم الثالث بكل ما فيه من تقاطعات وإرهاصات وأحلام ترسم في فضاء قادم .
في مقطع من منص (( تجربة )) علي عدد من الدوائر الدلالية في تجاور أو صراع عبر مجموعة من الدوال - المفاتيح التي تتعدد انعكاساتها في الجمل والسياقات التي تداخلت معه في النصوص , وهذا كله يقدم وعي الكاتب وقضاياه التي شارك أصحابها مواقفهم أو قام محاورا لهم أو ناصبهم النقاش وهو في كل هذه الحالات الصوت المخترق لقراءتنا كيما تتحول الي فعل أو مشاركة وأول شفرة نففكها في محاور النص الدال (( عناق القطرات )) الذي ورد مفردا عنوانا لنص (( عناق قطرة ))
وكان جزءا من لحمة خمسة مفردات اخري " المطر - المحل - الورد - الفتاة - تعانق " سواء في مباشرة الدال أو في حضور المدلول أي لقاء مع فتاة الزهور و إعجابه بها ويظهر لنا ملغزا إذ هو مشدود لها ومبهور بمفاتنها ناسيا زوجته التي أتي خصيصا لإحضار باقة ورد لها بمناسبة عيد ميلادها وبهذا يتحول الي سخرية سوداء تتكأ الجرح وتفتش عن ذاك الذي ينبغي أن يكون مع تلك الفتاة صاحبة الزهور .
نكتشف في تجوالنا بين دوال النصوص أننا أمام مجموعة من الأقانيم التي يقوم بها جدل الحياة وتتباين مصائر البشر ومطامحهم , ومن هذه البينية التحتية تنهض لمحات من تقابلها والصراع فيها وإشراقات تزاحم العتمة وتتلون بساحاتها الوجدة .
أولا : تردد كلمة (( نوم عميق )) ست مرات
ثانيا : تردد كلمة (( متعبة )) أربع مرت
ثالثا : تردد كلمة (( سترتي )) خمس مرات
رابعا : تردد كلمة (( تساءلت - قلت - حدقت )) سبع مرات
أول انطباع يتمثل لدينا عند تأمل هذه الدوائر ومفاتيحها هو أننا نواجه كائنات مشعة لا كلمات أو حروفا مرصوفة , إن عددا من تكرار الكلمات يتولد مع حضور الدال الواحد في السياقات فيفرش مساحات واسعة تتشعب جنباتها وتغدو مهيأة لتلاحم ثري بالدوائر التي أشرنا إليها في منظومة وعي صاحب النصوص فالأض هي الوطن وهي جزء من كينونة الإنسان ولذلك تقترن بالقرية التي هي أقدم مختبر لكيمياء البقاء وتتابع الأجيال البشرية , وهي بؤرة لا معة في تقاطع خطوط البعد والسفر , وهي القرين في خصوبة مع المرأة والقرية لأنها أرض الرجال و أرض المعابد وتبزغ الشجرة علامة عالية لا يمكن ؟أن تخطئها العين وإن ابتعدت المسافت إنها منارة الأرض .
من قصة (( في الشارع القديم )) ص 19
" لم يعلم بعلاقتنا سوي تلك الشجرة النائية بالقرب من محطة الحافلة التي قضينا تحت ظلالها أجمل أوقاتنا..."
وهنا ندرك الصلة الوشيجة بالشجرة إنما لإقامة البناء الأول لصرح الحضارة
إننا ندرك أن تجربة القاص زين العابدين الشريف في مجموعته القصصية (( لم يعد متاحا )) بلغت به هذا المستوي من تشكيل نسق جمالي لغوي في الجمل واللعب بفاعلية علي تنويعاته وهو يحتاج الي دراسة نقدية تفصيلية في سياقات النصوص وطبيعة الحركة الأساسية لدي المبدع وردود الأفعال الجمالية عند المتلقي عند التواصل مع التجربة وقد جاء استخدام الأساليب السمترية علي نحو متواتر في النصوص ليضيف بعدا آخر في النسق الأسلوبي للتركيب اللغوي فقد نشطث جماليات السؤال والخطاب والنداء لتعبر عن حيوية في المواقف والزوايا التي تقف عندها النصوص , فهي قطعة من الحياة سواء كانت سيرة الماضي والتاريخ الموصول بنا أو حلما لمستقبل تصر الإرادة علي تحقيقه في فجر قادم ومن ناحية أخري تبرز الجمالية هنا في اضفاء طابع المرأة المقهورة والتي أرادت أن تعيش بعيدا عن الخطايا بعدما كانت غارقة فيها فإذا بها تجد من اتجهت إليه الا انه اراد ان يقول لها بما فعل انه لم يعد متاحا ما ترمين اليه .
ارادت النصوص ان تكسر حاجز الحيادية وتخرج الي المتلقي وتخاطبه من جهة وتشعره بالحركه مع هؤلاء الذين يراهم في جنبات الحياة .
النصوص التي تناولها الكاتب زين الشريف كلها كانت علي محك بالبيئة رغم تواجد مسميات لا تمت ببيئتنا السيناوية مثل (( القرية - الريف - بائعة الزهور )) فمثلا لا يوجد في االبيئة السيناوية المطوعة لخدمة النص الزمكانية مثل البحر والنخيل والصحراء و الجبال و المكان ذاته .
لا غرو أن في سيناء خصوصيات متباينه تماما عن أي ملتقي ومكان آخر في العالم بأثره ومازلنا ننادي استغلال بيئة سيناء وروعة صحرائها وخلابة نخيلها وصفاء بحرها ورماله الناعمة .
أما عن النسق التصويري فقد اشتمل علي صور سريعه وقصيرة للتشبيه والاستعارة أساسا مع حضور الصورة الحرة وهي التي تشكل مشهدا في زاوية تحمل دلالة متبلورة وان لم تستخدم القوالب البلاغية وارتفع هذا الاستخدام للصور الي مصاف النسق عندما تواتر في كل القصص في مجموعة (( لم يعد متاحا )) أي لم يكن ورود هذه الصورة أو تلك مصادفة أو اعتباطا فثمة قصد فني داخلي أنتج أجزاء حية ألغت السكون أو السردية وجعلت الدلالة تغادر السياق وتحدث شروخا تنفذ من خلالها انفعالات وتطورات مع هذا الوجه وتلك المرأة , وتبرهن علي أن برنامجا جماليا كان ينشط في الذات المبدعة من خلال الترابط بين الصور والحالات في الدوائر الدلالية عبر قصص مختلفة في مجموعة (( لم يعد متاحا ))
ونصوصه للقاص الجميل زين العابدين الشريف .