لم أكن أعلم أن الحب يمكن أن يكون خطيئة، ولا أن النظرة العابرة قد تُشعل في الروح نارًا لا تُطفأ.
كل ما كنت أريده أن أطمئن عليها. لكنّ الطمأنينة تحوّلت إلى قلق، والقلق إلى عجزٍ عن النسيان.
كنت في أوائل العشرينات، أعمل في المدينة. بيتنا متواضع، وساكنوه يعرفون السكينة أكثر مما يعرفون الحكايات. حتى ذلك الصباح، حين رأيتها لأول مرة ، واقفة عند البوابة ، تحمل شيئًا بين يديها وتحدّث جارةً مسنّة بابتسامةٍ صافية. لم تكن جميلة بمعنى الصنعة، لكنها تشبه المطر حين يبدأ، لا يثير الضجيج لكنه يغيّر الهواء من حوله.
منذ تلك اللحظة، صار وجهها يحضر في تفاصيل يومي دون إذن. وكنت أعلم أن قلبي قد بدأ رحلة لا عودة منها.
حاولت أن أقاوم، أن أذكّر نفسي أن ما أشعر به نزوة عابرة، وأن العيون لا تهدم رجلاً إلا إذا سمح لها بذلك. لكنني كنت قد سمحت دون أن أشعر.
ذات مساء، مررت بالحيّ متعبًا من دوامٍ طويل، فوجدتها تقف عند البقالة الصغيرة، التي تقع على ناصية الشارع ، تتحدث مع أحد الأطفال.
حين رأتني، أومأت برأسها بابتسامةٍ خفيفة وقالت:
– السلام عليكم
كانت المرة الأولى التي تناديني فيها باسمي.
أجبتها وأنا أحاول أن أبدو طبيعيًا:
– وعليكم السلام، كيف حالكِ؟
قالت:
– بخير، الحمد لله. أسمع أنك تركت عملكَ القديم!؟.
– نعم، أنتقلت لعملٍ أقرب للمدينة.
– جميل… تستحق الأفضل دائمًا.
ثم مضت بخطواتٍ هادئة، وتركت في قلبي أثرًا لا يُحتمل.
لم تمضِ أيامٌ كثيرة حتى جاءني منها أولُ اتصالٍ صامت.
رسالةٌ قصيرة في إحدى أمسيات الشتاء:
لا أعرف من أين حصلت على رقم هاتفي.
كانت الرسالة الأولى منها قصيرة، متردّدة، كأنها تخاف أن تُفتح:
مساء الخير أستاذ، أعتذر عن الإزعاج، أردت فقط أن أسألك عن كتاب (الأجنحة المتكسّرة)، أيمكن أن أجدَه في المكتبات القريبة؟
قرأتُ الرسالة أكثر من مرة، ثم وضعت الهاتف جانبًا كأنّني أتعامل مع شيءٍ قابلٍ للانفجار.
لم أرد.
لكنني، في اليوم التالي، فتحت المحادثة من جديد.
"ربما تجدينه في مكتبة النور، عند نهاية السوق القديم."
كانت كلمات قليلة، لكنها كانت كافية لتفتح بابًا لن يُغلق بسهولة.
لم تكتب شيئًا بعدها.
لكن تلك الرسالة الصغيرة كانت الشرارة الأولى في قصةٍ لم أكن مستعدًا لها.
لم أستطع تجاهلها بعدها.
صرنا نتحدث أحيانًا عن أشياء لا معنى لها عن الطقس، وعن الكتب، وعن تعب الأيام.
كنت أحاول أن أبدو حذرًا، أن أضع بيني وبينها مسافةً من اللغة الرسمية، لكن اللغة مثل القلب تخون حين تريد أن تحفظ المسافة.
كانت تكتبُ كما تتكلم: بصدقٍ بسيط، بلا تكلّفٍ ولا غموض، وهذا ما كان يربكني أكثر من الجمال ذاته.
كنت أعلم أن الخطأ لا يبدأ حين نحب، بل حين نبرر الحب. ومع ذلك، لم أتوقف.
كنت أجيب بسطورٍ قصيرة، ثم ألوم نفسي بعد كل ردٍّ وكأنني أقترف ذنبًا متعمدًا.
لكن شيئًا في صوتها كان يمدّني بحياةٍ جديدة، حياةٍ صغيرةٍ وسريّة، لا يعرفها أحد.
ثم بدأت اتغيب.أتأخر في الردّ، أو أختفي لأيامٍ كاملة.
كنت أقول لنفسي إنّ هذا طبيعي، وإنّ ما بيننا مجرد حديثٍ عابر.
كنت أتجاهل رسائلها عمدًا، كمن يريد أن يقطع خيطًا خفيًّا قبل أن يلتف حوله أكثر.
لكنّ التجاهل لم يكن إلا شكلاً آخر من التعلّق.
وذات ليلة، بعد صمتٍ امتدّ شهرًا كاملًا، وصلني منها ما لم أكن أتوقعه:
“إن سكتّ عنّي ، لا تظن أني سأغضب. سأفهم. لكن فقط تذكّر أن فيّ قلبًا لا يحتمل الغياب الطويل. قلبي خفيف، لكنه إذا انكسر، لا يُرمّم. ولا أعرف إن كنتَ ستقرأ هذا غدًا أو بعد زمن… لكنّي أردت أن أقول إنّ معرفتك كانت من أجمل الصدف في حياتي."
صمتٌ طويلٌ، ثقيل، كأنّ العالم توقف.
قرأتُها مرارًا، وكل مرة كنتُ أشعر أن شيئًا في صدري ينكسر.
حاولتُ الاتصال بها، أرسلتُ الرسائل، سألتُ الجيران… لكن أحدًا لم يعرف.
قيل إنها سافرت، وقيل إنها مريضة في مستشفى بعيد.
وقيل أشياء أخرى لا أريد أن أصدّقها.
كانت الساعةُ تقترب من السادسة مساءً، والسماء تميل إلى لونٍ رماديٍّ داكن، كأنّ النهار قرر أن ينسحب بصمتٍ من المدينة
سرتُ بخطواتٍ سريعة نحو بيت الشيخ في نهاية الزقاق. أعرف أن الوقت غير مناسب، لكن السؤال الذي يثقل صدري لم يتركني أهنأ لحظة.
طرقتُ الباب بيدٍ مرتجفة. بعد لحظاتٍ فتح الشيخ الباب بنفسه. كان شيخًا طاعنًا في السن، ذا لحيةٍ بيضاء قصيرة، وعينين لا تزالان تحتفظان ببريقٍ من حنانٍ لا يُفسَّر.
قال بهدوءٍ:
– أهلاً يا بني، تفضل… وجهك لا يطمئن، ما الذي جاء بك؟
دخلتُ وجلست على السجادة القديمة في زاوية الغرفة، تلك التي تفوح منها رائحة المسك والدخان الخفيف من مبخرةٍ على الطاولة. قلت بصوتٍ خافتٍ متردد:
– جئتُ لأسألك عن حكمٍ فقهي… لكن ربما هو أكثر من ذلك، ربما هو ذنب لا أستطيع أن أسمّيه.
نظر إليّ الشيخ نظرةً طويلة، ثم قال:
– تكلّم يا ولدي، لا شيء يُصلَح ما لم يُقال.
صمتُّ قليلاً، ثم تنفستُ بعمقٍ كمن يريد أن يقتلع شيئًا من صدره:
– يا شيخ… ما حكم من طعنَ قلبَ مؤمنٍ دون قصدٍ فقتله؟
رفع الشيخ حاجبَيْه قليلاً، كمن يحاول أن يفهم ما وراء السؤال، وقال بهدوءٍ:
–إن كنت تتحدث عن القتل، فذاك أمره لله.
قلت بسرعة: وأنا أحدّق في الأرض.
– لم أطعنه بسكينٍ، يا شيخ، لكني أشعر أنني قتلتُه فعلاً.
سكت قليلاً، ثم أكملت بصوتٍ متكسر:
– كانت إنسانةً قريبة… أحبّتني أكثر مما توقعت، وربما أكثر مما استحق. لم أقصد أبدًا أن أؤذيها، لكنني فعلت… بالكلمات، بالإهمال، بالتردد، وربما بالغرور. كنتُ أظن أن الوقتَ طويل، وأنها ستبقى، لكني كنتُ أقتلها ببطء وأنا لا أشعر.
لم يقاطعني الشيخ، تركني أتكلم كما لو كان يعرف أن السكوت هو دواء الجروح العميقة.
قلت:
– في يومٍ ما، توقفت عن الرد على رسائلها. كنتُ غاضبًا من نفسي، من كل شيء، وظننتُ أن الصمت سينقذنا من النهاية. لكنها اختفت بعد ذلك. لا رسائل، لا صوت. علمتُ بعد فترة أنها سافرت بعيدًا، وأنها مريضة. لم أستطع النوم منذ ذلك اليوم. أشعر أنني قتلتُ قلبًا كان يؤمن بي. فهل يُغفر لي؟
تنهد الشيخ طويلاً، وأطرق برأسه لحظة، ثم قال بصوتٍ عميق:
– يا بني، القتل ليس فقط بما يخرج من اليد، بل بما يخرج من القلب أيضًا. هناك من يقتل بالخذلان، وهناك من يُميت الآخر بصمته. ولكن، طالما أنك تشعر بالذنب، فباب التوبة لم يُغلق بعد.
نظر إليّ نظرةً مباشرة وقال:
– عليك أن تصلح ما أفسدتَ ما استطعت. اكتب، اعتذر، ابحث عنها، ولو لم تستطع الوصول إليها فادعُ لها. الله لا يُحاسبك على الغفلة إن تاب قلبك بصدق.
قلتُ بخفوت:
– ولكن يا شيخ… إن كانت قد ماتت؟
ساد صمتٌ ثقيل. الشيخ لم يجب فورًا.
ثم قال:
– إن كانت ماتت، فادعُ لها. وأحسن عملك من بعدها. ليس في يدك الآن إلا الرحمة.
أطرقتُ رأسي طويلاً، حتى سكنت أنفاسي. ثم نهضتُ شاكرًا ومغادِرًا.
كانت المدينة هادئة إلا من صوت المؤذن البعيد ينادي لصلاة العشاء.
الهواء بارد، ورائحة التراب المبلول تملأ الممرات الضيقة.
سرتُ نحو البيت بخطواتٍ بطيئة. وفي رأسي تتردد كلماته: “هناك من يقتل بالخذلان.”
عدتُ إلى غرفتي، أغلقتُ الباب، وجلست أمام المرآة الصغيرة كعينٍ نائمةٍ تنتظر شيئًا. مسكت هاتفي ارتجفت أصابعي وأنا
اضغط على رسالتها القديمة.
“إن سكتّ عنّي ، لا تظن أني سأغضب. سأفهم. لكن فقط تذكّر أن فيّ قلبًا لا يحتمل الغياب الطويل. قلبي خفيف، لكنه إذا انكسر، لا يُرمّم. ولا أعرف إن كنتَ ستقرأ هذا غدًا أو بعد زمن… لكنّي أردت أن أقول إنّ معرفتك كانت من أجمل الصدف في حياتي."
لم أجد جوابًا، سوى أن الدموع كانت الجواب.
ومنذ ذلك اليوم، صار الهاتف عندي يشبه قبرًا صغيرًا، أفتحه أحيانًا لا لشيء، بل لأقرأ آخر رسالةٍ منها، وأقنع نفسي أن الكلمات لا تموت.
في الأيام التالية، كنت أكتب فيها ما لم أستطع قوله حين كانت قريبة.
عن الخوف، والندم، والغرور، وكل تلك الأشياء الصغيرة التي تصنع بين شخصين جبلًا من المسافة. وضعتُ الهاتف على صدري. بقيتُ هكذا طويلاً، حتى سمعتُ صوت الأذان من بعيد. لم أدرِ كيف وجدتُ نفسي ساجدًا ، أردد دون وعي:
– اللهم اغفر لي… واغفر لها.
زرتُ الشيخ مجددًا.
قلتُ له:
– يا شيخ، ربما لم أقتل جسدًا، لكني قتلتُ قلبًا حيًّا. كيف أعيش مع هذا؟
ابتسمَ الشيخ وقال:
– عش لتُصلح. من ذاق وجع الذنب، عرف طريق الله. التائب لا يُعيد الماضي، لكنه يجعل من بقاياه نورًا لغيره.
يا ولدي، الله إذا أحب عبدًا، كسَرَه ليُلين قلبه، لا ليهينه.أن الله لا يبتلي العبد بالحب إلا ليعرّفه على ضعفه. ومن عرف ضعفه، عرف طريقه إلى الله.
كنتُ أهز رأسي، وأشعر أني أفهم هذه الجملة أكثر في كل مرة.
سألني الشيخ:
– أما زلت تكتب لها رسائل؟
ابتسمتُ بخجلٍ وقلت:
– نعم، لكنها لم تعد لها، يا شيخ.
– لمن إذن؟
– لنفسي القديمة، حتى لا أعود إليها.
ضحك الشيخ وقال:
– أحسنت، فالكتابة دواء، والتوبة جسرٌ لا يُعبر مرتين.
كانت الدنيا تميل نحو الغروب حين خرجتُ من بيت الشيخ.
الريح باردة، ورائحة المطر تملأ الطريق.
ثم مضيتُ بخطى واثقة نحو المسجد الذي ارتفع منه صوت الأذان،
وفي داخلي، سمعتُ صوتًا ناعمًا، كأنّه من بعيدٍ يقول:
“سلامٌ على من أحبّ بصدقٍ، وإن أخطأ الطريق.”





































