لم يكن الغروب في ذلك اليوم يحمل لوناً واحداً. كان مزيجاً من الأحمر المتعب، والبرتقالي الذي يشبه شرارة انطفأت، والرمادي الخفيف الذي يسكن أعين الذين خسروا شيئاً ولم يعودوا قادرين على استعادته. كان الهواء ثقيلاً بعض الشيء، كثيفاً كمن يحمل حكايات كثيرة لم تُحكَ بعد.
في ذلك المساء، كنتُ أجلس على الرصيف عند أطراف المدينة.لم يكن المكان مميزاً؛ مجرد زاوية مهملة تُفضي إلى شارع ضيق، تحفه محلات صغيرة بدأت تغلق أبوابها.
ومع ذلك، شعرتُ أن هذا المكان يشبه محطةً يتوقف فيها المسافر ليلتقط أنفاسه قبل أن يواصل طريقاً طويلاً لا يعرف نهايته.
وحدتي لم تكن جديدة،
لكنها في ذلك اليوم كانت أشد حضوراً…
كأنها تجلس إلى جواري، تراقب حركاتي، وتتنفس معي.
لم أكن أفكر في شيء محدد.
كنتُ فقط أسترجع كل الأشياء التي مرّت، الأشياء التي كانت، وتلك التي ضاعت دون ضجيج… لكن ضياعها كان عظيماً.
كنتُ أعرف تماماً أن كل ألفاظ الوداع مُرّة.
جرّبتُ الكثير منها. جرّبتُ الوداع الذي يشبه باباً يُغلق للمرة الأخيرة، والوداع الذي يحدث دون كلمة، والوداع الذي يلوّح من بعيد كأنه يخاف أن يُرى.
لكن مرارة كل الوداعات… كانت واحدة دائماً.
ولم أعرف يوماً أيّها أشدّ مرارة:
الوداع المتوقع؟
أم الوداع الذي يهجم فجأة كحربٍ صغيرة؟
أم ذاك الوداع الهادئ الذي يحدث دون أن يقول شيئاً… لكنه يترك كل شيء.
قبل سنوات، كنت أعيش حياة بسيطة، لكنها كانت تكفيني.
كنت أعمل عملاً عادياً، منهكاً لكنه يمنحني معنى.
كنتُ أرى الوجوه التي أمرّ بها كل يوم تشبهني:
يحاولون، يسقطون، ينهضون، يكابرون، ويحلمون.
ثم جاءت الحرب.
لم تكن قريبة تماماً… ولم تكن بعيدة.
كانت في مكانٍ بينهما، مكان لا تستطيع أن تلمسه لكنه يلمس كل شيء فيك.
كان صداها يصلنا من بعيد، لكنه مع ذلك استطاع أن ينتزع شيئاً من حياتنا دون أن يقترب من أبوابنا.
الحروب لا تحتاج أن تطرق باب بيتك كي تقتلك.
يكفي أن تقف على عتبة المدينة كي تسرق أجمل ما فيك.
ساءت الأحوال.
تغيّرت الوجوه.
كبر الخوف.
ثم بدأت الدائرة تضيق شيئاً فشيئاً…
ضاقت العلاقات.
ضاقت الأحلام.
ضاقت القلوب التي كانت تتسع للحياة.
وشعرتُ حينها بأن شيئاً في داخلي صار هشّاً كأن قلباً كان مغطى بغلاف رقيق وتمزّق.
لكن الحرب لم تكن وحدها التي سرقت جزءاً من روحي.
كان هناك أيضاً الشوق…
ذلك الوحش الذي لا يرحم، الذي يتربّص بك في اللحظات التي تظن فيها أنك بخير.
اشتقت لأماكن لم أعد قادراً على العودة إليها.
اشتقت لأيامٍ كنت أظن أنها عادية، لكنها كانت حياةً كاملة.
اشتقت لأشخاصٍ كانوا قريبين… ثم صاروا بعيدين بالسفر، أو بالموت، أو بتغير الدنيا.
حتى أنني اشتقت لنسخةٍ قديمة جداً من نفسي…
نسخة لم تكن تعرف كل هذه المرارات بعد.
كان الليل يزحف ببطء، كأن الظلام يمشي على أطراف أصابعه.
وفي ذلك الظلام، استعدتُ حكاية قديمة أعرف أنني لم أتجاوزها مهما حاولت.
كانت هناك علاقة اقتربت من قلبي أكثر مما يجب.
علاقة لم تكن عابرة.
كانت صافية، عميقة، وهادئة… كأنها ماءٌ يجري في داخلي.
لكنها انتهت.
ليس لأن الحب انتهى…
بل لأن الحياة قررت أن تمضي بنا في اتجاهين لا يلتقيان.
لم يحدث خلاف.
لم تقع خيانة.
لم نجرح بعضنا.
لكن شيئاً ما بدأ يتآكل بيننا:
التزامات، مسافات، صمت، وتعب يلتهم ما تبقى من الكلام.
ثم جاء يوم لم نقل فيه كلمة "وداع".
ومع ذلك… حدث الوداع بالفعل.
فهناك وداعات بلا ألفاظ…
ومرارتها أعمق من كل الكلمات.
هكذا تُكمل الحياة طريقها.
نمضي ونحن نحمل بقايا أشياء لم تكتمل،
ونسير بثقةٍ مكسورة،
لكننا نمضي.
وكلما عدتُ بذاكرتي إلى تلك العلاقة،
أدركتُ أنّ أجمل ما كان فيها
هو أنها لم تفسد.
لم تصبح ندماً،
ولا معركة،
ولا جرحاً.
كانت شيئاً نقياً مرّ في حياتي بهدوء،
ورحل بالهدوء نفسه…
وترك في داخلي تلك المرارة التي لا تشبه الكره،
بل تشبه الدرس.
الدرس الذي لا يقال،
ولا يتعلّمه الإنسان إلا حين يخسر ما كان يظنه الأبقى.
تساءلتُ:
هل يستطيع الإنسان أن يأمل وهو يحمل كل هذه المرارات الصغيرة؟
ثم قلتُ لنفسي في الداخل:
نعم… لكنه يأمل بصمت.
وببطء.
كأن الأمل يمشي على عكّازين.
رأيت شاباً يحمل كيس خبز يمشي بسرعة نحو بيت ينتظره.
ورأيت امرأة عجوزاً تكلم نفسها، ربما تسترجع ذكرياتٍ بلا أصحاب.
ورأيت طفلاً يمسك يد أبيه بقوة كأن العالم كبير جداً بالنسبة ليدٍ صغيرة.
وفي كل هذه الوجوه… رأيت وجهاً واحداً فقط:
الإنسان.
هذا الكائن الذي خُلق ليحب ويخاف ويتألم… لكنه أيضاً ليظل واقفاً.
وشعرت بأن الحقيقة تتقدم نحوي ببطء:
"كل ما يسرق الإنسان من نفسه مُرّ."
الحرب مُرّة.
الوداع مُرّ.
الغياب مُرّ.
لكن المرارة الأكبر تأتي من الزمن…
فالوقت لا يأخذ الأشياء دفعة واحدة،
بل يقضمها قضمات صغيرة،
ويترك الإنسان يحدّق في الفراغ الذي يتّسع من حوله دون أن يفهم كيف حدث ذلك.
تذكرتُ رجلاً عجوزاً رأيته قبل أيام.
سألته يومها: "أأنت بخير؟"
فابتسم وقال:
"نحن لا نكون بخير دائماً يا بني… ولكننا نظل نحاول."
جملته بقيت عالقة في داخلي.
فكل الناس يحاولون:
ألا يسقطوا، ألا ينسوا، ألا يتألموا.
أو على الأقل… يحاولون التعايش مع الألم.
وهذا أصعب أنواع المحاولات.
صار الليل كاملاً الآن.
أضواء السيارات تلمع كنجوم جريحة.
والرصيف أصبح بارداً.
ومع ذلك لم أتحرك.
كنت أشعر أنني اقترب من مواجهة شيء ظللت أهرب منه طويلاً.
كنت أعرف أنني فقدت الكثير.
لكن الموجع لم يكن الفقد ذاته…
بل ما تركه الفقد داخلي.
فالثقب الذي يحدثه الغياب لا يُردم بسهولة.
والوقت لا يشفي كل شيء كما يظن الناس.
والقلب لا ينسى…
بل يتظاهر بالنسيان فقط.
ومع ذلك… وجدت نفسي أبتسم.
ابتسامة صغيرة بالكاد تُرى.
لكنني شعرت بها بوضوح.
لأنني أدركت فجأة أن كل هذه المرارات جزء من كوني إنساناً.
وأن الإنسان، مهما حاول الهرب، يبقى محكوماً بالمشاعر التي تربيه أكثر مما تجرحه.
وقفت أخيراً.
شدّدتُ معطفي على كتفي.
ونظرت إلى الطريق طويلاً كأنني أودّع شيئاً آخر في داخلي.
ثم سرتُ بخطواتٍ بطيئة… لكنها ثابتة.
كنت أعلم أن خطواتي لن تغيّر العالم،
لكنها كانت كافية لتغيّر شيئاً في قلبي.
وفي الطريق قلت لنفسي همساً:
كل شيء يسرق الإنسان من الإنسان مُرّ…
لكن المرارة نفسها قد تصبح باباً إلى ما هو أصدق.





































