لم يكن الصمت في الغرفة غياباً عارضاً للضجيج، بل كان نصلاً بارداً يمر ببطء فوق عنق كبريائه، يقطر في مسام الوقت سُمَّ الحقيقة التي أنكرها طويلاً. في تلك الزاوية المنسية من الليل ، كان يقف شاهداً على انكسار آخر قنديل في محراب أوهامه؛ فقد أدرك بعد خراب البصيرة أنَّ أفتك أنواع الموت لا يسكن القبور، بل يقطن في ومضة هاتف ، تربع فوق رصيف انتظاره المتآكل، يرمق شاشة هاتفه . كان الصمت في الغرفة كائنا يقتات على ما تبقى من وقاره، يمد مخالبه في زوايا الروح ليحفر فيها حقيقةً لم يعد إنكارها مُجديا: إن الانتظار ليس سوى احتضار بطيء لفكرة كانت تدعى الوفاء، وأن الوقوف على عتبات الألم ليس إلا نوعا من الانتحار الذي نمارسه بكامل أناقتنا العاطفية.
كان يجلس بجسد يابس كأنما قُدَّ من صخر الخيبة، يرمق ذاك الجهاز المسجى أمامه كضريح من زجاج أسود، يختزل في عتمته وجوه أولئك الذين صَيّر من عروقه جسوراً ليعبروا، ومن شمس شبابه دِثاراً ليصطلوا، ومن جزالة قلبه معجماً يرمم ما تكسر في لغاتهم. كان فكرة تُذبح على عتبة الواقع، ورجلاً أضاع عمره وهو يحرث في بحر النكران، بانية كفاحه صروحاً للآخرين، بينما ظل هو يتيماً في العراء، يقتات على فتات ذكريات لم تعد تمنح دفئاً.
بين عينيه وبين الشاشة المطفأة، دارت رحى معركة صامتة؛ معركة رجل اكتشف فجأة أن "الطيب" الذي كان يظنه تاجاً، لم يكن في أعينهم سوى "عكاز" يتكئون عليه ريثما تشتدُّ سُوقُهم، فإذا ما استقام العود، كان أول ما كسروا هو ذاك العكاز. هناك، وعند تلك النقطة الفاصلة بين السقوط والقيامة، لمعت في سواد عينيه شرارة لم تألفها انكساراته السابقة؛ كانت شرارة الاستغناء التي توشك أن تحرق بيادر الذل، وتُعلن ولادة إنسان جديد، قرر أن يغادر عتبات الألم، ليسير فوق حطام آلامه بقدم ثابتة، وقلب لم يعد يرتجف لغياب أحد.
لم يكن مجرد إنسانٍ ينتظر، بل كان فكرةً تُحتضر. لقد أمضى سنواته وهو ينسجُ من خيوط روحه دثاراً للآخرين. كان الصديق الذي لا ينام إذا تأوه جارُه، والابن الذي صير عمره عتبةً ليرتقي فوقها طموحُ ذويه، والحبيب الذي لم يترك لغةً في المعاجم إلا وطوعها ليرمم بها انكسارات من يحب.
لكنه اليوم، يجد نفسه وحيداً في مواجهة الحقيقة العارية: الانتظار هو أرقى أنواع الموت البطيء. تأمل انعكاس صورته في مرآة خزانته ، فرأى رجلاً غريباً عنه. تذكر كيف كان يبرر غيابهم؛ يقول لنفسه:
"لعل الشواغل أذهلتهم، لعل الخطوب أعجزتهم"
لكنَّ الحقيقة كانت أشدُّ مضاضةً من وقع الحسام المهند. الحقيقة أنهم لم ينسوه سهواً، بل استثنوه قصداً. لقد أصبح في حياتهم خياراً ثانوياً يُلجأ إليه حين تضيق بهم السبل، ويُلقى على قارعة النسيان حين تورق بساتينهم.
عصر قبضة يده حتى ابيضت مفاصله. شعر بحرارةٍ تجتاح صدره، لم تكن حرارة غضب، بل كانت شرارة الوعي الذي يأتي متأخراً كالمطر في أرضٍ محترقة. تذكر ذاك الصديق الذي اتكأ على طيب قلبه لسنوات. كان يأتيه مثقلاً بالديون والهموم، فيجد عنده الصدر الرحب واليد المعطاء. وبمجرد أن استقام عوده، واشتد ساعده، صار يرى فيه شاهداً على ضعف قديم، فأراد مغيب وجهه ليُدفن معه تاريخ انكساره.
هنا، وقف أمام الجملة التي غيرت مجرى تفكيره:" من يستثنيك استثنه"
لقد كان يظن أن عطاءه بلا مقابل سيعلي من شأنه في أعينهم، لكنه اكتشف أن العطاء المفرط لمن لا يستحق هو بمثابة تعليمهم كيف يذبحونك بسكينٍ بارد. لقد كانت النتيجة واضحة: هم ليسوا سيئين لأنهم خذلوه، بل هو من كان مخطئاً حين ظن أن الورد ينبت في سباخ الملح.
في تلك اللحظة من الليل، حيث يبلغ اليأس ذروته، اهتز الهاتف.
لمعت الشاشة. تسارع نبضه كطبلٍ حربي. مد يده بتردد، بلهفةٍ حاول كبحها، ليجد أنها مجرد رسالة دعائية من شركة اتصالات.
ضحك ضحكةً مريرة، جرحت صمت الغرفة كشفرة حلاقة. كانت هذه الصفعة هي المنبه الذي يحتاجه ليستيقظ من غيبوبة الوفاء الموهوم.
نهض من مكانه، ومشى نحو النافذة المطلة على زقاقٍ مهجور. فتحها، فاستقبله هواء الفجر البارد ليغسل عن وجهه غبار الانتظار. قرر أن يكون كاتب قصته من الآن فصاعداً، لا مجرد "كومبارس" في مسرحيات الآخرين.
استرجع بذاكرته كل موقفٍ تنازل فيه عن كرامته لئلا يخسرهم. كل مرة اعتذر فيها وهو صاحب الحق. كل مرة صمت فيها عن إهانةٍ مغلفة بمزاح. أدرك أن القوة ليست في القدرة على الاحتمال، بل في القدرة على الاستغناء.
من يستثنيك استثنه.. لم تكن مجرد نصيحة، بل صارت دستوراً جديداً.
استحضر صورة ابنه الذي جافاه، وأخيه الذي لم يسأل عن حاله منذ دهر، وصديقه الذي استغله حتى جف ضرعه. نظر إلى هؤلاء جميعاً بعين المشاهد لا بعين المشارك. رأى ضعفهم، لؤمهم، وصغر نفوسهم.
قرر
أن "يكسر العكاز".
العكاز لم يكن مالاً ولا جاهاً، بل كان الطمأنينة التي يمنحها لهم بأن قلبه سيبقى مفتوحاً مهما فعلوا. قرر أن يغلق هذا الباب بالضبة والمفتاح. لا بدافع الحقد، فالحقد اعترافٌ بالأهمية، بل بدافع العدم. أن يصبحوا بالنسبة إليه والعدم سواء.
مع خيوط الشمس الأولى التي بدأت تطرد فلول الظلام، كان قد أتمَّ تطهير ذاكرته. مسح الأرقام التي لا ترد، وحذف الرسائل التي لم تُقرأ، وألقى في سلة المهملات بكل الذكريات التي تجبره على الانحناء.
خرج من غرفته، لم تكن مشيته هي مشية ذاك الرجل المحطم الذي دخلها بالأمس. كانت خطواته رصينة، ثابتة، توحي بأن الأرض التي يمشي عليها قد ملكها أخيراً. لم يعد يلتفت للهاتف، ولم يعد يعنيه إن كان ضوؤه سيلمع أم سيظل مطفأً للأبد.
لقد أدرك يقيناً أن الخذلان لم يمت يوماً للحب بصلة، وأن المحبة التي لا ترفع من شأنك هي قيدٌ يجب كسره.
مضى في طريقه، تاركاً خلفه عتبات الألم، ليمشي في فضاء السيادة. لقد تعلم الدرس الأكبر: أن أغلى ما يملكه الإنسان هو "نفسه"، ومن يفرط في نفسه ليشتري رضا الناس، سيخسر نفسه والناس معاً.







































